ليس بعمر الحركات والتنظيمات يقاس إنجازها، ولا بطول إيغالها في الزمن يتحصّل التقدير لها، ولا يكفي أن تتوفّر لتنظيم ما مقومات البقاء وتتكاثف عوامل الحضور ليقال إنه عريق، فالبقاء وحده ليس علامة ازدهار. إنما لا بدّ من امتزاج العراقة بالحياة، والثبات بوفرة التحديات، والبقاء بمجابهة الخطوب، والاستمرار بالنهوض بالمسؤوليات الكبرى التي تأسس التنظيم لأجلها واستظلت أهدافه بها.
وحين يكون مدار الحديث تنظيماً نشأ في أرض محتلة وقدّم نفسه كحامل لمشعل تحريرها فإن تلك الشروط تكون ضرورية عند النظر إلى مسيرته الطويلة والتمعّن في انتقالاته هبوطاً أو صعودا، ذلك أن الزهو بعدد السنوات التي مرّت على نشوء التنظيم وانبعاث تاريخه ستبدو فعلاً احتفالياً باهتاً إذا ما جُعلت معياراً لتقديره واحترام تجربته.
وفي تجربة حماس (كواحدة من هذه التنظيمات) سيظل العامل الأهم الجدير بالملاحظة كلما مضى من عمرها عام آخر هو موقعها من تلك المسؤوليات بعداً أو قرباً، وحضوراً حولها أو تحوّلاً عنها، ثم قدرتها على العطاء في الميدان الذي نشأت فيه والغاية التي انطلقت لأجلها.
ثمة تنظيمات لم يبقَ من أمجادها سوى إرث موغل في القدم يتشكّل في أدبياتها وحسب ويشحّ في حاضرها، وثمة تنظيمات تحوّلت عن أهدافها وتنكّرت لمساراتها الأولى حتى ناصبتها العداء وحتى أبلَى شرهها للسلطة قوامها وبدّل لونها وأعاد تشكيل أولوياتها، فصارت ذكرى انطلاقاتها مجرّد محطة احتفالية لاجترار الأمجاد الغابرة أو التغني بالأوهام الحاضرة.
وفي حالة حماس، سيكون مهماً التوقف عند العوامل التي جعلتها تستقرّ في وعي الجمهور كحركة مؤتمنة على مسيرة التحرير، وكيف استحقّت ونالت تلك الريادة في مجال مقاومة المحتل، وظلّت تجدّد وتطوّر وسائلها دونما توقّف، ولماذا يظلّ خطيراً على مستقبلها ومستقبل القضية أن تصغي لمن يطمح بإلباسها رداءً فضفاضاً يستوعب المتناقضات، ويفضي إلى التخلي التدريجي عن الأصول والثوابت.
فحماس التي بدأت مسيرتها دون مساند في هذا المحيط، فتدرّجت من الحجر والسكين إلى البندقية والحزام الناسف، وصولاً إلى الصاروخ والنفق، وحماس التي بدأ جناحها العسكري بأفراد معدودين ثم صار جيشاً راسخ البنيان، وهو ما يزال في كل حرب وجولة مع المحتل جدار الصدّ الأول له، وحماس التي ما فتئت كنانتها تحمل الأمل للمأسورين حتى وإن كان ثمن هذا الأمل كبيراً ويرهق طاقتها، وحماس التي ظلّت منذ انطلاقتها تصنّف في مقدمة الأعداء المرهبين للاحتلال، فلم يتخلّ عن ملاحقتها في أي مرحلة من مراحل مسيرتها، بل ظلّ شكل الملاحقة يشتدّ ويكبر كلما تضاعف العطاء الجهادي للحركة واشتدّ عود مقاومتها وتراكم سلاحها. حماس التي تمثّل كل ذلك وغيره لا تُشابه غيرها، ولا ينبغي لها أن تنظر في بضاعة قصيري النفس، ولا أن يشغلها ما يتأخر بها عن مسؤولياتها الحقيقية وأهدافها الكبرى.
إن العظمة التي يحوزها تيار في مسيرة التاريخ أو تلتصق بتجربة حتى تغدو جديرة بالمحاكاة لا تأتي من فراغ، ولا تتحصّل دون أثمان كبيرة، ولا تكون بالاستسلام إلى مفردات العجز التي تسلب إرادة أكثر الناس في العادة وتبقيهم أسرى معطيات الواقع دونما محاولة لتغييره أو تجاوزه، ومما يُشهد لحماس أنها اخترقت جدار العجز في مراحل كثيرة وصنعت واقعاً جديداً كان عصيّاً على التنبؤ، وأخضعت مصاعب كانت مجابهتها تبدو مستحيلة، وصنعت أملاً حقيقياً وبشائر ملموسة وسط سحب الظلام والقهر التي تلفّ أوطاننا.
عن تجربة حماس ومسيرتها السياسية والجهادية يمكن أن يقال ويكتب الكثير، والحركة نفسها يمكن أن تستوقفها مراجعات كثيرة، لأنها تجربة بشرية أولاً وأخيرا، ولا بدّ أن تكتنف مسيرتها عثرات وأخطاء. إنما المهم دائماً ألا تستحيل المراجعات إلى تراجعات، وألا يُظنّ بأن تقييم التجربة ينبغي أن يفرز اقتصاداً في مقوّمات حياة حماس وعراقتها وديمومة أثرها، ففي الوقت الذي سينحسر فيه العطاء الجهادي للحركة وتكفّ عن كونها عنصر التهديد الأكبر لعدوّها، وفي الوقت الذي ستنشغل فيه بالقشور عن الجوهر أو تنكفئ لتراهن على الأوهام، لن يصبح مقبولاً منها أن تحتفي بانطلاقتها ولا أن تردد شعارات انبعاثها الأولى أو تدعي ثباتها عليها. لكنّ عزاءنا الكبير هو أن مسيرة حماس الطويلة لم تعد تنبئ بإمكانية وصولها ذلك المصير قبل بلوغها غاياتها. فحماس التي لم تخيّب أمل المراهنين عليها يوماً تعي أكثر من غيرها حجم ما يتطلبه احتفاظها بتلك الثقة الكبيرة الممنوحة لها من شعبها، لأنها ثقة لا تُمنح بالمجان، وتحتاج أن تظلّ دعائمها متجددة وملموسة.