فلسطين أون لاين

إبادة صحية: الاحتلال يستهدف قلب غزة الطِّبي

إبادة صحية: الاحتلال يستهدف قلب غزة الطِّبي
إبادة صحية: الاحتلال يستهدف قلب غزة الطِّبي
فلسطين أون لاين

منذ الساعات الأولى لبدء حرب الإبادة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحوّلت المستشفيات في قطاع غزة إلى أهداف مباشرة في مرمى نيران الاحتلال الإسرائيلي، في خرق فاضح لكل القوانين الدولية والإنسانية التي تحظر استهداف المنشآت الطبية، وتمنحها حماية مضاعفة لكونها خطوط حياة لا يجوز المساس بها.

لكن الواقع على الأرض في غزة رسم صورة أكثر قسوة ودموية، إذ لم يكتفِ الاحتلال بتدمير البنى التحتية والمنازل، بل وجّه ضرباته نحو قلب المنظومة الصحية، فحوّل المشافي إلى ساحات قتل وتدمير.

ووفقًا لاتفاقيات جنيف، وتحديدًا الاتفاقية الرابعة بشأن حماية المدنيين وقت الحرب، تُعد المستشفيات والمرافق الصحية محمية بموجب القانون الدولي، ولا يجوز استهدافها تحت أي ظرف، ما لم تُستخدم بشكل واضح ومثبت لأغراض عسكرية، وهو ما لم تستطع (إسرائيل) تقديم دليل عليه رغم مزاعمها المتكررة.

المعمداني.. قصف متكرر

أقدم جيش الاحتلال فجر أمس على استهداف مستشفى الأهلي العربي "المعمداني" في مدينة غزة بعدة صواريخ، ما أدى إلى تدمير مبنى الإسعاف وتضرر مباني الاستقبال والمختبر والصيدلية ومحطة توليد الأوكسجين، ما أجبر الطواقم الطبية على إخلاء المرضى بشكل عاجل وسط ظروف مأساوية.

رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد"، د. صلاح عبد العاطي، وصف القصف الإسرائيلي الذي استهدف مستشفى المعمداني بـ"الجريمة المركبة ضد الإنسانية والتاريخ".

وأكد عبد العاطي لـ "فلسطين أون لاين" أن هذه الجريمة تمثل استهدافًا مباشرًا ومقصودًا للقطاع الصحي في قطاع غزة، وتُعد جريمة مركبة تهدف إلى تعميق الإبادة الجماعية وتهديد حياة الجرحى والمرضى نتيجة توقف الخدمات الصحية، خاصةً في ظل خروج أكثر من 35 مستشفى عن الخدمة بفعل العدوان المستمر.

وأشار إلى أن "المعمداني" يُعد من أوائل المستشفيات التي أُنشئت في مدينة غزة، حيث تأسس عام 1882 من قبل الكنيسة الإرسالية المعمدانية في إنجلترا، وتديره حاليًا الكنيسة الأسقفية في القدس، ما يجعل استهدافه ليس فقط جريمة ضد القطاع الصحي، بل أيضًا جريمة ضد أحد أعرق المعالم التاريخية والخدمية في القطاع، والذي يقدم خدماته لسكان شمال ومدينة غزة منذ أكثر من قرن.

وكان هذا القصف هو الثاني من نوعه على المستشفى نفسه خلال الحرب، إذ شهد في 17 أكتوبر/تشرين الأول مجزرة دموية راح ضحيتها أكثر من 500 شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء والنازحين.

ولم يكن "المعمداني" وحده في مرمى العدوان، بل سبقه مجمع الشفاء الطبي، أكبر مشفى في القطاع، الذي تعرّض في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 لحصار واقتحام وقصف واسع، تسبب باستشهاد وإصابة المئات من الفلسطينيين.

في 18 مارس/آذار 2024، عاد جيش الاحتلال لاقتحام مستشفى الشفاء، وارتكب داخله مجازر فظيعة، نفّذ فيها عمليات إعدام ميداني لعشرات النازحين والمرضى داخل الأقسام، وفق شهادات وثقتها وسائل إعلام حقوقية.

قائمة طويلة من الجرائم الطبية

ولم تتوقف آلة التدمير الإسرائيلية عند مستشفيي المعمداني والشفاء، بل امتدت لتطال مختلف مرافق الصحة في غزة، فقد عمدت قوات الاحتلال إلى تدمير مستشفى بيت حانون، الوحيد الذي كان يقدم الخدمات الطبية في المدينة الحدودية، ولاحقًا قصفت ودمرت وأحرقت المستشفى الأندلسي في جباليا شمالي القطاع.

وفي جريمة أخرى، حاصرت قوات الاحتلال مستشفى كمال عدوان في منطقة مشروع بيت لاهيا، حيث اعتقلت طاقمه الطبي وعلى رأسهم مدير المستشفى د. حسام أبو صفية، واعتقلت العديد من الجرحى والمرضى، قبل أن تدمره بالكامل.

كما تعرّض مستشفى الصداقة التركي جنوب مدينة غزة للنسف والتدمير، ومستشفى القدس للقصف والحرق، ومستشفى شهداء الأقصى في دير البلح للقصف عدة مرات، كما لاقى مستشفى ناصر، الأكبر في خانيونس، المصير ذاته، حيث قُصف عدة مرات، كان آخرها قبل عدة أسابيع، ومن قبله مستشفى أبو يوسف النجار في رفح جنوبي القطاع.

ووفقًا لإحصاءات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فقد دُمّر أو أُخرج عن الخدمة 36 مستشفى، إلى جانب عشرات المراكز الصحية والعيادات، ضمن خطة ممنهجة لتفكيك النظام الصحي وحرمان السكان من أدنى مقومات الحياة.

وفي حديثه، يقول عبد العاطي إن استهداف المرافق الصحية يندرج ضمن سياسة الاحتلال في إبادة السكان، وفرض واقع يجعل من غزة منطقة منكوبة غير صالحة للحياة، في ظل انعدام الخدمات الإنسانية والصحية، الأمر الذي يكشف بوضوح ازدراء الاحتلال لحق الفلسطينيين في الحياة والصحة، وعدم الاكتراث التام بالقوانين الدولية والإنسانية التي تمنح المستشفيات والطواقم الطبية حماية خاصة في أوقات النزاعات.

وحذر الحقوقي الفلسطيني من العجز الدولي الفاضح والمستمر عن وقف هذه الجرائم، مشيرًا إلى أن التراخي الدولي يشجع الاحتلال على المضي قدمًا في انتهاكاته، ويزيد من تفاقم الكارثة الإنسانية التي يعيشها أكثر من مليوني مواطن في قطاع غزة.

ودعا عبد العاطي المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، ودول الجنوب العالمي إلى التحرك الفوري والعاجل لوقف جريمة الإبادة الجماعية الجارية في قطاع غزة، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية، والأدوية، والمستلزمات الطبية، وإدخال المستشفيات الميدانية، وتمكين إجلاء الجرحى والمرضى للعلاج خارج الأراضي الفلسطينية.

كما شدد على ضرورة فرض عقوبات على الاحتلال الإسرائيلي، ومحاسبة المسؤولين عن جريمة استهداف مستشفى المعمداني، والعمل على توفير الحماية الدولية للمدنيين والمنشآت الصحية والطواقم العاملة في المجال الإنساني والطبي.

استراتيجية ممنهجة

من جانبه، أكد الباحث الحقوقي فؤاد بكر أن إصرار (إسرائيل) على استهداف المستشفيات في قطاع غزة لا يمكن اعتباره مجرد أخطاء عسكرية عشوائية، بل هو جزء من استراتيجية ممنهجة لضرب قلب البنية التحتية المدنية الفلسطينية، مشيرًا إلى أن المستشفيات تمثل الملاذ الأخير للمدنيين في أوقات الحرب، وتدميرها يعني شلّ الحياة ومنع العلاج ودفع السكان نحو الموت البطيء أو التهجير القسري.

وأوضح بكر لـ "فلسطين أون لاين" أن هذا الأسلوب يضرب المجتمع الفلسطيني في أضعف نقاطه، ويعزز حالة الانهيار الشامل التي يعاني منها القطاع، مشددًا على أن (إسرائيل) تبرر هذه الاعتداءات بذريعة استخدام الفصائل الفلسطينية للمستشفيات لأغراض عسكرية، دون أن تقدم أي أدلة موثوقة أو تحقيقات مستقلة تدعم هذه الادعاءات.

وأوضح أن القانون الدولي الإنساني، حتى في حال وجود شبهات، يُلزم بضرورة التحقق الدقيق والالتزام بمبدأ التناسب والتمييز، وهو ما يتم تجاهله بالكامل من قبل الاحتلال. وتكرار هذه الاستهدافات واتساع نطاقها، بحسب بكر، يشير إلى نية متعمدة لإفراغ القطاع من أي ملاذ إنساني، وتحويل غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة.

وأكد أن هذه السياسة تهدف في جوهرها إلى كسر الروح المعنوية للسكان المدنيين، ودفعهم نحو الاستسلام تحت وقع الضغط الإنساني الهائل. وأضاف أن استهداف المستشفيات لا يشكل فقط جريمة أخلاقية، بل يُعد أيضًا جريمة حرب بموجب القانون الدولي.

وشدد بكر على أن غياب المحاسبة الدولية الفاعلة يشجع على تكرار الجرائم، ويجعل من المعاناة الفلسطينية حالة مستمرة بلا نهاية، مطالبًا المجتمع الدولي بالتحرك العاجل لوقف هذه الانتهاكات، ومحاسبة المسؤولين عنها.

أمام هذا التدمير الممنهج للنظام الصحي، يظل المجتمع الدولي عاجزًا عن اتخاذ موقف رادع، وسط مطالبات بوقف الحرب، وضمان حماية المنشآت الطبية، وإدخال مساعدات عاجلة، وتقديم قادة الاحتلال المسؤولين عن هذه الجرائم إلى المحاكم الدولية.

 

اخبار ذات صلة