في زمنٍ تحاصره الروايات المضللة، وقف أحمد منصور في خندق الكلمة، محررًا لا يهاب الحقيقة. لم يكن مجرد ناقلٍ للأخبار، بل صوتًا حيًّا لمعاناة غزة تحت نيران الاحتلال. آمن بأن فضح الجرائم مسؤولية أخلاقية ووطنية، مهما كان الثمن، حتى لو كان الثمن حياته. لم يتكاسل يومًا عن أداء واجبه، يسابق الزمن ليُزوِّد موقعه الإخباري بأدق تفاصيل حرب الإبادة، مؤمنًا أن الكلمة الحرة سلاحٌ لا يقلُّ أثرًا عن الرصاص.
وفي فجرٍ هادئٍ خادع، اختطف الموت أحد أنبل فرسان الحقيقة في غزة. أحمد منصور، الصحفي البالغ من العمر (36 عامًا)، المتزوج وأب لثلاثة أطفال، لم يكن مجرد صحفيٍّ يؤدي واجبه المهني، بل كان قلبًا نابضًا بالحياة، عطوفًا، محبًّا، ومتفانيًا في كل أدواره؛ كأبٍ، وكأخٍ، وكإنسان.
وُلد أحمد ونشأ في خان يونس، وتلقى تعليمه في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، ثم واصل تعليمه الجامعي متنقلًا بين تخصصات مختلفة، حتى استقر به المطاف في دبلوم الصحافة الإلكترونية بجامعة الأقصى. منذ بداياته الصحفية عام 2012، حمل قضيته في قلبه وعدسته، مؤمنًا أن الصورة والكلمة قادرتان على كشف جرائم الاحتلال للعالم، حتى لو لم تنقذا الضحايا.
مع اندلاع الحرب الحالية على غزة، لم يتراجع أحمد، بل كان من أوائل من لبّوا نداء المهنة. رغم انقطاع الكهرباء والإنترنت، واصل عمله من خيمةٍ للصحفيين قرب مستشفى ناصر، متحديًا الخوفَ والظلامَ وأزيزَ الطائرات. كان أحد الصحفيين في وكالته الذي تمكّن من تغطية الأحداث تحت وطأة الحصار التكنولوجي، بفضل إصراره وشغفه، وقلبٍ مؤمنٍ بعدالة قضيته.
يقول شقيقه سامي لصحيفة "فلسطين": "عمل أحمد الصحفي كان شغفًا وحبًّا للمهنة رغم خطورتها في هذا الوقت العصيب، والعمل تحت ضغط الطوارئ."
لم يكترث أحمد لضغط العمل الصحفي وخطة الطوارئ أثناء الحرب، لكن أكثر ما كان يؤثر فيه مشاهد أبناء الشهداء والأسر المكلومة التي فقدت عددًا كبيرًا من أفرادها. كانت أكبر مخاوفه على أبنائه وأهله، خاصة أمه وإخوته، فكان يتواصل معهم دائمًا للاطمئنان عليهم رغم تعبه وإرهاقه من العمل المتواصل.
لكن الصحافة في غزة ليست مجرد مهنة، بل هي مخاطرة دائمة بالحياة. يروي شقيقه سامي أنه في ليلة الاثنين، عند الواحدة والنصف فجرًا، دوى انفجارٌ قرب خيمة الصحفيين، تبعه صمتٌ قاتل. ثم انتشرت على مواقع التواصل صورة جسدٍ يحترق، يتلوى تحت اللهب، وبدت ملامحه تشير إلى أحمد... لكنه لم يكن من المفترض أن يكون هناك!
لم يُجب هاتفه، فتسلل القلق إلى قلب أسرته. خرجوا في ظلام الحرب إلى المستشفى، حيث كانت الصدمة: أحمد مصابٌ بحروقٍ شديدة، فاقدٌ للوعي، موصولٌ بجهاز تنفس، وقد اخترقت شظيةٌ قاتلة دماغه، تاركةً نصف جسده مشلولًا. صمد يومًا كاملًا في العناية المركزة، لكنه فارق الحياة منتصف ليل الثلاثاء، شهيدًا للحقيقة.
ما هزّ العائلة وآلاف المتابعين لم يكن فقط خبر استشهاده، بل مشهد جسده المحترق، وحركاته الأخيرة المليئة بالألم، التي أصبحت رمزًا للثمن الذي يدفعه الصحفي الفلسطيني لنقل الحقيقة. مشهدٌ صادمٌ هزّ العالم، ولم يتحمله حتى من يحمل أدنى درجات الإنسانية.
ويضيف شقيقه: "كان أحمد نموذجًا نادرًا في النبل والكرم، لا يرضى بإزعاج أحد، دائم الفكاهة حتى في أحلك الظروف. كان يعشق الأطفال ويكرمهم، ويحنو على أهله وأصدقائه، ويتقاسم ما يملك مع الجميع، حتى لو لم يملك سوى القليل."
تحوّل أحمد من ناقلٍ للخبر إلى خبرٍ أليم: "الصحفي أحمد منصور يستشهد حرقًا بصواريخ الاحتلال أثناء تغطيته جرائمه." فهل يُعقل أن تُقتل الكلمة؟ أن تُحرق الصورة؟ أن يُصادر الصوت؟ ها هو أحمد، بدمه، كتب الحقيقة بسطورٍ لا تُمحى.
ويكمل أخوه: "كانت الصدمة هائلة، تفوق تصور العقل، خاصة مع انتشار مقطع الفيديو الذي يظهر النيران تلتهم جسده الضعيف، بينما كانت حركاته البسيطة توحي بألمٍ لا يُحتمل."
هذه الصورة هزّت مشاعرنا ومشاعر العالم أجمع، حيث عبّر الجميع عن صدمتهم من ذلك المشهد المروّع، الذي لا يتحمله أي إنسان يحمل ذرةً من الإنسانية.