قائمة الموقع

"مش ابني.. ابنك يابا".. هكذا بدأ لقاءُ الأب الأسير بالابن المريض

2017-11-01T08:45:56+02:00

باغتوه على حين غِرة.. كما الفجر تماماً.. وُلد نهار وأمل جديدان، لعل اللقاء يكون اليوم، فالقاضي الإسرائيلي أمر أن يكون لقاء الأسير المقدسي رجب الطحان بنجله مجد المصاب بمرض السرطان، وهو في حالة متدهورة وخطيرة، خلال ثلاثة أيام، اليوم تاليها.. تدور أفكاره برأسه مُصدرة صرير الرحى، لكن الفتات هنا لأمل قد يكون معدوماً، فقبض السجانون على أكتافه وقالوا: هيا.

تخيل أن تكون "أبًا" لطفل لم تره إلا وهو شاب في ريعان العمر، 19 ربيعا مكتملا، تتوقع منه أن يكون "عمود البيت" وسندا يسد الثغرة التي تركها في العائلة غيابك، بسبب كونك أسيرا لدى الاحتلال الإسرائيلي، وبدلًا من ذلك يتسلل إليك الألم على شكل مرض استثنائي لم تتخيله يوما يمس أحد أفراد أسرتك، إنه السرطان .

سرطان نهش جسد هذا الشاب اليافع "مجد"، والذي يمر بظروف صحية خطيرة، غيّبته عن عالمه ومجتمعه وأسرته، كما غيّب الأسر والده، كلاهما تعرض للقهر والمتاعب، غير أن قهر الأول قد يجد له العالم حلاً أما قهر الثاني فهو متجسد بكيان هذا الاحتلال الإسرائيلي ووجوده على أرض فلسطين.

المعاناة متواصلة، وبينها وبين إعدام الروح "خطوة" فهذا المجد يواجه الموت وحيدا، وحالته لا تسمح له بالخروج من مستشفى "هداسا عين كارم" لزيارة والده الأسير رجب الطحان، وهو من محرري صفقة وفاء الأحرار والتي ما لبث الاحتلال إلا أن أعاد اعتقال عدد منهم ليرديه في سجون الاحتلال حي الجسد قتيل الروح، تحت مظلة الاعتقال الإداري الذي يسنه قانون "الدفاع في حالة الطوارئ" والمطبق في الأراضي الفلسطينية منذ زمن الانتداب البريطاني وبعده قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي وحتى يومنا هذا.. دون تهمة، ودون أي حساب للزمن.

استنفارٌ عائلي

اقتاده السجانون، فجر أول أمس، الاثنين، إلى حيث لا يدري، لكن الوجهة كانت متوقعة، لقاء مجد، تخيّلَ غرفة المشفى وفي أي ركن سيجد فيه مجد، هل سيكون نائما؟ لعله كذلك، فالوقت مبكر جداً على الاستيقاظ، ثم قفزت لرأسه فكرة "شيقة"، يكاد لا ينطق فيها باطنه.. هل سيسمحون له بأن يوقظ مجداً هذا الصباح؟ وكيف سيوقظ هذا الجسد العزير الغالي، أيهمس في أذنه باسمه؟ أم أن قبلة الجبين ستكون كافية؟

أيقظته رنات السلاسل التي كبلت يديه وقدميه وهو يسير في تلك الطريق المظلمة برفقة سجانيه، فاليوم يوم سعده الذي طال انتظاره، اليوم يوم لقاء المجد.. تلك الصورة الأخيرة المحفورة في ذهن والده له قبل نحو عامين من الآن لا تزال حاضرة في ذهنه، لعله أصبح هزيلاً لكن ذاك الجمال الآسر سيبقى، وكيف لا؟! فهذا هو "مجد" أبيه.

خرج باسم الطحان شقيق رجب من غرفة مجد في تمام الساعة 5:40 صباحا، فبحسب التعليمات الإسرائيلية يجب ألا يتواجد في غرفة المريض ولا في القسم كله أي شخص سواء كان من أهله أو حتى الأطباء والممرضين، وأعلموهم بأن الزيارة سوف تكون خلال ثلاثة أيام، ما جعل العائلة تستنفر لإنجاحها، وتلك كانت أهم مسؤوليات "باسم"، الذي حاورته "فلسطين"، وعرفت منه تفاصيل اللقاء، بعد أن حدّثه بها مجد، وها نحن ننقلها لكم في السطور التالية:

بزغ في المرآة

ترك "باسم" ابن شقيقه وهو نائم في سريره، بعد أن أمضى ليلة متعبة بسبب آلام في البطن خلّفتها جرعة الكيماوي الأخيرة التي خضع لها، وبسبب عدم وجود أحد في الغرفة معه، تنفيذاً لتعليمات الاحتلال، تحامل على نفسه وهو لا يستطيع المشي منذ فترة لتدهور حالته الصحية، وتوجه إلى المرحاض، وما هي إلا دقائق حتى خرج منه ووقف أمام المغسلة يجفف يديه وفي المرآة بزغ ذاك الوجه المتوقع.. والده الأسير رجب.

لم يكن الأسير رجب وحده بل كان برفقة سجانيه، وسلاسل قيده أيضاً، وقف ينظر للمجد ويتفحصه بتمعن قبل أن ينطق: "هذا ليس ابني؟"، لم يدر في خاطره أن جرعات العلاج الكيماوي أخفت معالم "المجد" الجميلة، وأن جسده اليافع الغض أصبح بهذا البؤس، بل إن كل ما تنامى إلى إدراكه أنه يقف أمام حيلة جديدة من المخابرات الإسرائيلية.

"أنا ابنك يابا".. ألقاها مجد على مسامع أبيه، لكن الأخير لم يستوعب الموقف بعد، وسأل مجداً عن أسماء جديه لأمه وأبيه، وعن بعض الأقارب والأعمام، حتى أدرك أن من يقف أمامه بنصف كيان هو تلك الوردة التي تركها متفتحة قبل أعوام.

وبالرغم من إدراكه المتأخر، بادر الأسير رجب بيديه وقدميه المقيدتين إلى احتضان "مجد"، تلك اللمسات الدافئة التي قد لا تتكرر ثانية في هذه الحياة، فلا نعلم من يسبق من، هل يسبق المرض فيخطف روح "مجد"؟ أم يسبق الاحتلال فيخطف روح أبيه "رجب" بإبعاده عن "مجد" ثانية.

الدقائق تركت عقارب الساعة، وخاضت سباق "الفورمولا"، ولا شيء بيد الأب وابنه سوى أن يحتفظا بتلك اللحظة إلى الأبد، وشيء آخر بعد لا يمكن أن يفعله إلا أب.. ببطء وحنو مد يديه المقيدتين بالسلاسل إلى رأس "مجد" وقرأ عليه ما تيسر من القرآن الكريم، وكأنه أراد أن يقول لمجد وأهله وسجانيه وكل فلسطيني وعربي يقرأ هذه الكلمات: "إن الله خير حافظ".

خمس وعشرون دقيقة مرّت.. انتهى وقت الزيارة، انتهى الحلم، وانتهت الرقية الشرعية، وانتهى كل شيء، إلا الألم الذي تعاظم في نفس كليهما، "أمهلوني ثلاث دقائق فقط" قالها الأسير رجب مطالبا سجانيه بأن يسمحوا له بلحظة وداع قد تكون أبدية.

الأرض أم السماء؟

حاول "مجد" أن يرفع من معنويات أبيه ، أخبره أن سيتحمل لأجله كل شيء وأنهما سيعيشان سوياً ذات يوم، وأن اللقاء القادم لن تكون فيه هذه السلاسل حاضرة، فوافقه الأسير "رجب"، وفي نفسه يعلم أن ما يقوله "مجد" عين الحقيقة لكن هذا اللقاء أين سيكون، على الأرض أم في السماء؟!.

غادر الأسير رجب غرفة ابنه تحت ضغط سجانيه، ملقياً النظرة الأخيرة على ذلك الجسد الذي لا يزال ينبض، متضرعاً إلى الله أن يبقى هذا النبض حياً ما بقي هو على قيد الحياة، خرج من مستشفى "هداسا عين كارم" عائدا إلى سجنه وأفكاره وتضرعاته وأشياء أخرى لم نستطع أن نعلمها ولا حتى محاموه الذين طلبت منهم عائلته أن يزوروه حتى يطمئنوا على حاله.

خمس وعشرون دقيقة، كانت فاصلة بين الحياة والموت، بين أن تكون وألا تكون، بين العدالة والظلم، وبين الحرية والأسر في سجون الاحتلال دون تهمة، ودون ذريعة، فقط لأن الرجل مقدسي فلسطيني أحب أرضه ودافع عنها، تلك جريمته التي بسببها حرم الاحتلال الإسرائيلي "مجد" من أن يعيش محنته في كنف أبيه وتحت جناحه، لا سيما وأنه مقبل على عملية جراحية ثانية لزراعة النخاع الشوكي اليوم الأربعاء، أي بعد يومين فقط من الزيارة، فهل تنجح؟ وهل يستطيع "رجب" رؤية "مجد" من جديد؟ والسؤل الأهم: هل سيتحرك العالم الحر لنصرة الأب والابن المحرومين من أبسط الحقوق الإنسانية للتعامل مع البشر؟!.

اخبار ذات صلة