مع حلول أذان العشاء، تغرق شوارع مدينة غزة في ظلام دامس. لا إنارة، ولا إشارات مرورية، ولا طرق صالحة للمشي. فمنذ أكثر من عام ونصف العام، يعيش سكان القطاع في انقطاع تام للكهرباء، ما يُغرق المدينة في عتمة شاملة، ويُجبر الأهالي على التنقل باستخدام كشافات الهواتف المحمولة.
في الشارع "الثالث" بحي الشيخ رضوان، الذي طالته آلة الحرب الإسرائيلية بدمار واسع، كان سعيد النجار يسير برفقة والده المسنّ حين غاصت قدمه في مستنقع من مياه الصرف الصحي، لم يكن مرئيًا بسبب الظلام. يقول سعيد: "لم أكن أراه، فقط شعرت بالماء يغمر قدمي حتى الكاحل. لم أتمكن من التحذير، لأنني لم أكن أعلم بوجوده".
هذا المشهد لم يعد استثنائيًا؛ فقد أصبحت مستنقعات المجاري ظاهرة مألوفة في الشوارع المليئة بالحفر والمطبات، عقب تدمير شبكات الصرف الصحي خلال الحرب المستمرة منذ أكتوبر 2023.
أم خالد الدنف، وهي سيدة خمسينية، اضطرت للنزول من سيارة أجرة متهالكة عند مفترق "بهلول"، ومواصلة الطريق سيرًا مع حفيدها حتى "مفترق الأمن العام". تقول: "أمشي بحذر شديد. في مرة سابقة، انزلقت قدمي فوق حجر وضعه الناس لعبور مياه الصرف، وسقطت على الأرض وابتلت ملابسي بالمجاري". وتتابع: "الطريق أصبح خطرًا، خصوصًا على النساء وكبار السن".
تختلط مياه الصرف بمخلفات المنازل ومياه الأمطار، فتغمر الشوارع نتيجة تدمير البنية التحتية وغياب إمكانيات الصيانة. وتعاني معظم مناطق القطاع من تراكم المياه بسبب انسداد المجاري وتوقف محطات الضخ وشبكات التصريف عن العمل.
ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن البنية التحتية تضررت بشكل شامل منذ بدء الهجوم العسكري الإسرائيلي، وتوقفت عملية ضخ الوقود، ما أدى إلى تعطل جميع محطات معالجة المياه العادمة، وعددها ست محطات، بالإضافة إلى توقف نحو 65 مضخة، وتدمير قرابة 70 كيلومترًا من شبكات الصرف الصحي. نتيجة لذلك، تُصرّف يوميًا نحو 130,000 متر مكعب من المياه العادمة دون معالجة، إما إلى البحر أو إلى وادي غزة، بينما يتسرب جزء منها إلى الشوارع وحتى داخل المنازل، بسبب تدمير أو انسداد الأنابيب. كما تشكّلت برك من المياه في ساحات مراكز الإيواء وأمام خيام النازحين، ما وفّر بيئة خصبة لانتشار الأوبئة.
وتفاقمت الأزمة مع تدمير الطرقات الرئيسية والفرعية خلال الاجتياحات البرية، فتحولت معظمها إلى حفر ومطبات، تتناثر على جنباتها أكوام الحجارة وأسياخ الحديد وبقايا منازل مدمرة. يقول عمار كلاب، عامل سابق بشركة الكهرباء: "الطرقات مليئة بالمطبات، أشعر بالدوخة والصداع إذا ركبت سيارة أجرة أو تكتك لمسافة قصيرة".
ويشتكي السكان من قيادة بعض السائقين بسرعات غير ملائمة رغم تدهور الطرق، ما يؤدي إلى تطاير المياه الراكدة على المارة. يقول أنس عرايشي، شاب في العشرينات: "السيارات ترشّ المياه علينا ونحن نمشي. لا أحد يعتذر، ولا توجد رقابة مرورية".
وتضيف أم خالد: "حتى المشي أصبح مصدر خطر وقلق".
وفي ظل غياب أي تدخل بلدي أو رسمي، نتيجة الاستهداف المتكرر للطواقم البلدية، يلجأ السكان في كثير من المناطق إلى بناء ممرات بدائية من الحجارة لعبور المستنقعات. وغالبًا ما يُطلب من الأطفال الانتظار أو الإمساك بأيدي ذويهم خشية الانزلاق أو السقوط.
ويقول السكان إن غياب الإنارة العامة يضاعف المعاناة، خصوصًا في الأحياء المكتظة أو القريبة من مناطق الدمار. وفي ظل هذه الظروف، تصبح أبسط الأنشطة اليومية، مثل الخروج لشراء الحاجيات، مهمة شاقة تتطلب حذرًا وضوءًا ومهارة لتفادي المخاطر.
تحرص ميساء حسني على أن يخلع طفلاها أحذيتهما خارج المنزل عند عودتهما من اللعب، إذ تعلم أن الأحذية غالبًا ما تكون ملوثة بالطين والرمال الممزوجة بمياه المجاري. تقول: "مهمة تنظيف أحذية أطفالي لا تنتهي وسط هذا الوضع المزري".
أما الفتاة فرح العبسي، فمرت بلحظات عصيبة حين فوجئت بعدد من الكلاب عند مدخل الشارع المؤدي إلى منزلها، أثناء عودتها المتأخرة من زيارة والدتها المريضة في مستشفى محلي. تقول: "كانت الكلاب تنتشر في الظلام، ولم أنتبه إليها إلا عندما اقتربت منها. انتظرت حتى مرّ أشخاص آخرون، لأتمكن من دخول البيت. مشاهد تنكيل الكلاب بجثث الشهداء لا تغيب عن ذهني".
من جانبها، تقيّد سلطات الاحتلال الإسرائيلية إدخال المعدات الثقيلة اللازمة لإصلاح الطرق وإزالة الركام، رغم ما نصّت عليه المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في يناير 2025.