بجرح مفتوح لم يلتئم منذ خمسة عشر شهرًا، وألم متواصل ينخر عظام قدمه المصابة، وواقع صعب نتيجة تدهور المنظومة الصحية ومستشفيات قطاع غزة، يتمدد الجريح راني دغمش على أحد أسرّة قسم الجراحة بالمستشفى المعمداني بمدينة غزة منذ خمسة عشر شهرًا حتى بات يصنف أنه أقدم جرحى المستشفيات. فمنذ إصابته لم يعد لمنزله.
أصيب دغمش يوم 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، لحظة استهداف مسجد حيهم جنوب غرب مدينة غزة، في أثناء مروره بجوار المسجد، أصابت شظايا الانفجار منطقة الفخذ الأيمن، وتسببت بجراح عميقة فيها. ورغم أنه أجرى منذ تلك المدة نحو 13 عملية جراحية، فإن الجرح لا يزال مفتوحًا ولم يلتئم نتيجة استمرار وجود التهابات في عظام قدمه المصابة.
بغرفة صغيرة تضم ثلاثة أسرّة، وقسم يعج ويتكدس بالمصابين والمرضى الذين يتوزعون على ممرات القسم بسبب الاكتظاظ وقلة المساحة، وبعيدًا عن بناته الثلاث وزوجته، ومعزولًا عن العالم الخارجي، فقد والده وبعض أشقائه وأقاربه ولم يشارك في جنازات تشييعهم نتيجة الإصابة، تتعاقب جروح الفقد وألم إصابة على قدم دغمش.
معاناة كبيرة
بينما يمسك بيده مكان الانتفاخ، ترحل ذاكرته في حديثه مع صحيفة "فلسطين" لبداية الإصابة وآثارها، قائلاً: "في أول ثلاثة أشهر من الإصابة عشت معاناة كبيرة، فالمنظومة الصحية كانت مدمرة تمامًا، ولم يكن هناك مستشفيات أو أطباء بسبب الاستهداف المستمر لها وتدميرها واعتقال الأطباء وقصفهم، فمكثت ثلاثة أشهر بلا علاج أو مسكن أو غيارات، وكنت أوفرها بصعوبة وعلى نفقتي الشخصية".
لم يكن سهلاً على الجريح دغمش أن تمر عليه كل هذه الفترة ويبقى جرحه مفتوحًا، وكأنه أصبح أسيرًا للإصابة، وأضاف عن عدم نجاح العمليات بكلمات مليئة بالاستياء: "أجروا عمليات تركيب مثبت عظام (بلاتين) داخلي ولم ينجح، وبعد فترة أزالوه نتيجة حدوث التهاب، وركبوا مثبتًا خارجيًا، فأزالوه لوجود ألم، وعادوا لتركيب مثبت داخلي، وهكذا مضت الفترة".
بنظرة خوف من المستقبل، يحتل القلق أفكاره وهو يرى حالته تسوء أكثر فأكثر دون أي تحسن: "صحيح أن هناك اهتمامًا بي من الممرضين والمشفى، لكن هذا أقصى ما يستطيعون القيام به نتيجة تدمير المستشفيات بشكل كبير، لكن أصبح لدي التهابات مزمنة بالعظم وأحتاج لزراعة عظم، وعلاجي أصبح غير متوفر في القطاع وموجود خارج القطاع، وإذا بقيت أكثر فقد أخسر قدمي".
بنبرة مليئة بالحسرة، يتابع: "يكفي أنني فقدت أبي وبعض إخوتي وأعمامي وأقاربي، وبسبب وجودي هناك تغيبت حتى من مراسم تشييعهم"، مناشدًا المؤسسات الدولية التي تعنى بالجرحى بالعمل على إخراجه وإنقاذ قدمه "قبل فوات الأوان".
حصل دغمش على تحويلة علاجية للسفر منذ شهر آب/ أغسطس 2024، ويقوم بتجديدها كل شهر، وكلما مرت المدة دون أن يسافر تتبدد آماله، وتزداد أوجاعه ومخاوفه على قدمه وحالته الصحية، خاصة مع استمرار إغلاق معبر رفح وعدم سفر دفعات جديدة من الجرحى.
ويتساءل باستغراب عن سبب عدم خروج حالة مثل حالته، بالرغم من وجود تقارير طبية ومعاينة واضحة لحجم المشكلة والمعاناة، في المقابل يسافر جرحى خلال فترة ليست طويلة من بعد تعرضهم للإصابة، مقارنة بفترة انتظاره الطويلة داخل أسرّة المشفى. يبتسم بسخرية: "صاروا هان يسموني عميد الجرحى من كتر فترة الانتظار".
أمنية بالسفر
نتيجة كثرة العمليات الجراحية وعدم نجاحها في إغلاق الجرح، أدى ذلك لمضاعفات صحية أخرى غير الألم، فأصبح لديه قصر بعظم القدم المصابة بمقدار 6 سنتيمترات.
يحتفظ دغمش بصور على هاتفه المحمول توثق مراحل الإصابة وتفاقمها، تظهر عمق الجرح، وصور أشعة تظهر مقدار الكسر، وبوضوح يظهر اتساع منطقة الجرح المفتوح، وعن عدم إغلاقه يشرح: "في فترة قاموا بإغلاق الجرح بالخيوط الطبية، لكنهم عادوا وأزالوا الخيوط نتيجة الالتهابات وتراكم الصديد، بالتالي يخشى الأطباء من تسوس العظم، لذلك أبقوا الجرح مفتوحًا حتى تخرج الالتهابات من منطقة الجرح".
يأتي الكثير من الجرحى والمرضى للقسم بحالات وجروح مختلفة، ويغادرون بعد تماثلهم للشفاء، إلا دغمش وبعض الحالات المماثلة لا يزالون يتواجدون منذ فترة طويلة دون أي تحسن كبير في حالتهم، ونتيجة هذه الحالة انخفض وزنه كثيرًا، وازدادت الالتهابات واتسعت منطقة الانتفاخ.
ونتيجة طول فترة إقامته بالمشفى، يعرف كافة الطاقم الطبي حالة دغمش، ويسهرون على حالته، ويقول الحكيم قاسم أبو شريعة: "إن الالتهابات تضاعفت بسبب قلة العلاجات والغيار، ولا زال يعاني من الالتهابات، ولديه نقص كبير بالعلاجات والمسكنات، نتيجة قلة الإمكانيات في قسم العمليات وقسم الجراحة، وهذا ينسحب على جميع المرضى"، مشددًا على أن المطلوب توفير أدوات كاملة لقسم العمليات وقسم الجراحة.
ويمنى دغمش النفس أن يخرج من المشفى بحالة جيدة، ويعود لمنزله ويمارس حياته الطبيعية كما كانت في السابق، أو يسافر لاستكمال العلاج في الخارج. ويوميًا تأتيه زوجته لمساندته في محنته والسهر على رعايته ثم تعود لبيتها، تملأ الحسرة صوته: "نفسي أجتمع مع عيلتي، وأحس حالي عايش زي باقي البشر".
وتزداد حالة اليأس التي يعيشها نتيجة إجراء الأطباء نحو 13 عملية جراحية، دون أن تنجح عملية واحدة. وبينما قام بتحريك أصابعه وثني قدمه، علق: "سلامة الأعصاب تشجع الأطباء على الصبر على حالتي وعدم الوصول لبتر القدم، لكنهم يخشون الوصول لمرحلة من الممكن أن تموت فيها الأعصاب".
ونتيجة نقص الدواء اللازم كالمسكنات القوية، والمضاد الحيوي للعظم، تزداد أوجاعه وآلامه التي لا يشعر بها أحد غيره، لافتًا إلى أنه في فترة من الفترات، احتاج الأطباء إلى "أسمنت طبي" لوقف الالتهاب، وبعد معاناة كبيرة وفره بالرغم من ثمنه الباهظ من خلال المستشفى الأردني، إلا أن ذلك لم ينجح في وقف الالتهابات.