بالرغم من تفوقه وتميزه في عمله الصحفي الذي امتد لأكثر من خمسة عشر عامًا، فإن الشهيد الصحفي محمد البردويل آثر أن يركن طموحه الصحفي جانبًا على الرغم من عروض العمل التي انهالت عليه من كبرى القنوات العربية، وأن يفرغ نفسه للعمل الإغاثي للملهوفين والمحتاجين في خضم "حرب الإبادة الإسرائيلية" التي أحرقت الأخضر واليابس، فكان عونًا للجميع، وفي مقدمتهم رفاق العمل الصحفي وشركاء الرسالة الصحفية.
فالصحفي البردويل الذي بدأ خطاه الصحفية في المجال الذي عشقه رغم أن دراسته الجامعية كانت في تخصص اللغة العربية في مؤسسة الرسالة للإعلام، ومن ثم انتقل إلى إذاعة الأقصى متدربا عام ٢٠١٠م، حيث كانت بداية العلاقة بينه وبين مدربه الأكاديمي والصحفي وائل جروان.
وقد فرض تميز الشهيد البردويل على جروان أن يكسر قواعد التدريب التي تقضي بأن يمضي المتدرب فترة تصل إلى ثلاثة أشهر على الأقل قبل أن يسمح له بالخروج على الهواء لأول مرة، لكن البردويل كان خلال ساعات من قدومه للإذاعة على الهواء مباشرة، ليظل بعدها صوتًا مميزًا عبر أثير إذاعة الأقصى حتى قصفها خلال الحرب الحالية.
ولم تغلق أبواب العمل الصحفي أمام البردويل بقصف الإذاعة، بل إن عدة قنوات عربية شهيرة عرضت عليه العمل معها برواتب مجزية، لكنه قد رشح زملاء آخرين بدلاً منه، وأصر على تنفيذ الوعد الذي قطعه على نفسه بأن يتفرغ للعمل الإغاثي خلال أي حرب يشنها الاحتلال على قطاع غزة.
وكانت بدايات العمل الإغاثي لدى الشهيد البردويل في العام ٢٠١٨ حين أسس فريق "تحدي الخير"، الذي كان أيضًا صديقه جروان عضوًا فيه، وقد تطور الفريق تدريجيًا حتى أصبح مركزًا شبابيًا معتمدًا قانونيًا يحمل اسم "مرسال"، فقد حرص الشهيد البردويل على ترخيصه.
في بداية الحرب كان جروان يعمل في المنطقة الوسطى، بينما يعمل البردويل في الجنوب، ثم بعد نزوح أهل مخيم النصيرات إلى رفح، عاد جروان والبردويل للعمل المشترك. كانت فترة صعبة من حيث تكدس النازحين وقلة الموارد وغلاء الأسعار، لكننا كنا نقدم كل ما نستطيع للنازحين، فاذكر أنه في إحدى المرات كلفنا طرد الخضار الواحد مئة دولار وكيس الدقيق أكثر من أربعمئة شيقل، وكذلك حليب وحفاضات الأطفال.
وبعد استمرار الحرب، ارتأى الشهيد البردويل العمل بشكل منظم. ففي فبراير ٢٠٢٤، تم إنشاء أول مخيم للنازحين يحمل اسم "مرسال" في المنطقة الإقليمية في خانيونس، وكان يضم سبعين خيمة، ولكن بعد أربعة أشهر أحرقته قذائف المدفعية الإسرائيلية.
لم يتوقف الفريق عن العمل، بل انتقل لإنشاء مخيم أكبر يضم أكثر من ٣٠٠ خيمة، يوجد فيه أماكن للإدارة والتصوير، ويعمل بشكل مؤرشف ورقيًا وإلكترونيًا وبنظام إداري متسلسل. "هنا قال الشهيد البردويل: الآن أستطيع أن أسند ظهري للكرسي وأنا مرتاح، فلا يوجد أي ثغرة في عملنا، وليأتِ من يأتي خلال الحرب أو بعدها ليقول هاتوا أوراقكم المالية، سيجد أن كل شيء جاهز لدينا."
وليلة استشهاد البردويل، كان الاحتلال قد طلب من أهل رفح النزوح منها، وكان ما يشغل باله أن عددًا كبيرًا منهم لا يجد ما يستطيع الانتقال به، فكان يفكر في كيفية مساعدتهم، مقترحًا إرسال شاحنات على تكلفة الفريق لمساعدتهم في النزوح. "فوجئنا بعد أربع ساعات من هذا الحديث باستشهاد محمد، ظللنا في حالة صدمة لمدة يوم كامل، ثم ارتأينا أن يجب أن ننفذ وصيته، فسيرنا الشاحنات التي أراد وانطلقنا للقرب من رفح، وأعطينا أموالًا للنازحين، والآن نعمل على مشاريع سقيا ماء وإطعام لهم."
وباستشهاد البردويل، يفتقد الوسط الصحفي الشاب ذو الأدب الجم، الذي لم يسمعه زملاؤه يتلفظ بلفظ جارح أبدًا، والذي مد يد العون لكل زملائه الصحفيين، خاصة النازحين منهم خلال الحرب الأخيرة على غزة.