فلسطين أون لاين

الجريح "يوسف العرعير".. ذاكرة لم تسجِّل تفاصيل المجزرة

الجريح "يوسف العرعير".. ذاكرة لم تسجِّل تفاصيل المجزرة
الجريح "يوسف العرعير".. ذاكرة لم تسجِّل تفاصيل المجزرة
فلسطين أون لاين

تملأ آثار الشظايا جسده، وتتناثر ندبات دائرية وثقوب صغيرة على كل موضع في يديه، يحترق نصف وجهه وأجزاء واسعة من بطنه، نجى من المجزرة التي كان في قلب تفاصيلها وخرج وهو لا يعلم حتى اللحظة عنها شيئًا، خرج من غرف العمليات حيًّا وهو الذي دخلها وكان في عداد الشهداء.

"ادعوله بالرحمة" بعد جملة قالها الطبيب، ظلت العائلة ترقب خروجه من غرفة العمليات شهيدًا نظرا لخطورته حالاته وتعدد إصاباته، إلا أن قلبه ظل ينبضُ ويتشبث بالحياة، ليخرج يوسف العرعير (31 سنة) بجروحه، وأكبرها فقد زوجته خلود سكر، وأبنائه إيمان (سنتان) وعمر (3 سنوات) وعبد الرحمن (9 سنين) ومحمد (11 سنة) ورزق (7 سنوات)  ونجى له طفله ظريف (12 سنة).

شيّعت العائلات جثامين الشهداء التي تراصت في ساحة المشفى، بكى وحضر الكل وغيّب هو عن مراسم التشييع وإلقاء نظرة الوداع الأخيرة، واحتضان أطفاله الذين احتضنهم قبل خلودهم للنوم وعاشوا لحظات سعيدة انتهت بمأساة دامية بعد يوم من أيام الحرب أمضته العائلة في رحلة بحثها عن توفير المياه والطعام، كروتين حياة يومي يعيشه أهالي القطاع طيلة فترة الحرب.

الساعة الثانية فجر الثلاثاء الموافق 18 مارس/ آذار 2025، استيقظ أهل غزة على أصوات انفجارات متتالية راح ضحيتها  أكثر من 600 شهيد، لا زالت حتى الآن تتكشف المآسي وتروى قصصها، فكانت عائلة "العرعير" واحدة من العائلات التي رحلت بمعظم أفرادها.

ورغم أن الاستهداف كان للمنزل المجاور لهم، إلا أن تأثيرها المدمر أحدث دمارا كبيرا في شقة نزح إليها يوسف العرعير بشارع عمر المختار بمدينة غزة، واستشهد أطفاله وزوجته.

تشبث بالحياة

على أحد الأسرّة بقسم الجراحة بالمشفى الأهلي المعمداني، يغط يوسف في نومٍ طويل لا يعرف أن هذا الهدوء ينتظره عاصفة ستهز قلبه إن تماثل للشفاء، يعاني من "فقدان للذاكرة غير معروف تفاصيلها إن كانت مؤقتة أم لا" وفق ابن خالته ثائر العرعير الذي يرافقه بالغرفة الصغيرة، ويحكي لـ "فلسطين أون لاين": "عندما جئت لحظة الاستهداف وبعد نقله للمشفى، وجدته ملقى على أرض المشفى والوضع كان في غاية السوء، الشهداء كثر بالعشرات، والمصابون يملؤون الممرات وفي كل مكان".

لا تفارقه جملة الطبيب وهو ينظر إلى جسد ابن خالته الممد أمامه: "قال لنا: "ادعوا له بالرحمة"، أخرج الأطباء بالعملية الجراحية شظية تزن 150 جراما برأسه، ولديه كسران بالجمجمة وحروق وجروح بيديه، وتعرضت منطقة البطن ومناطق بالوجه للحرق وها هو يتلقى العلاج في وضع طبي صعب أيضًا، فحالته تتطلب رعاية مختلفة لكن هذا غير متوفر مع الإمكانيات الصعبة التي تعيشها المستشفيات في غزة مع غياب الأدوية والمستلزمات الطبية".

كان العرعير يحاول هو مجموعة من الشبان، إيجاد مكان لنقل سرير "يوسف"، وبعد بحث وتفقد لكافة الغرف والصالات وحتى الممرات في قسم الجراحة لم يجدوا متسعا لنقل السرير، ويضيف: "المكان هنا ضيق، فيوجد ثلاثة أسرّة بمساحة صغيرة تفصلها ستائر قماشية".

ويتابع وهو يبدى علامات حيرة كبيرة في التعامل مع حالة "يوسف": "أمامه توجد دورة المياه بالتالي هناك رائحة كريهة، وحشرات وذباب يأتي إلى الغرفة، وصوت المولد الكهربائي بجانب النافذة وهو يعيش بحالة صعبة كون تعرض لإصابة في الدماغ أدت لفقدان الذاكرة".

بعد العملية، وفق العرعير، تذكر "يوسف" اسمه واسم والده، وهذا كل ما استطاعت ذاكرته استرجاعه حتى الآن، ويمضي غالب الأوقات نائما من تأثير المسكنات لتخفيف آلامه، "أتمنى أن تعود له ذاكرته ويتماثل للشفاء حتى يكمل حياته ويعتني بابنه ظريف، وأيضا أتمنى أن لا يتذكر تفاصيل الحدث بالوقت الحالي حتى لا تؤثر على حالته الصحية، فلو عرف ما جرى فربما يصاب بالانهيار" قال.

أما طفله ظريف الناجي الآخر من المجزرة، فخرج سليما باستثناء كسر في قدمه، وبذاكرة سجلت الحدث كاملاً، وتجرع مرارته وقسوة رحيل أمه وأخوته، شارك الطفل في دفنهم وتشييعهم، وهو الآن يعيش مع جدته المسنة من جهة الأب، لتكون له أمًا ثانية، وبين "فينة وأخرى يزور الطفل والده برفقة جدته، يبكي على حال والده ثم يغادر".

ويكمل: "حالته حاليا كالذي يعود مرهقا من التعب، يتحدث كلمتين بشكل صحيح وباقي الكلام غير مفهوم أو خاطئ، والآن لا يوجد مكان نذهب به إليه غير المشفى فبيته مدمر".

بصيص أمل

عاش "يوسف" وعائلته حياة بسيطة كغيره من شباب غزة الذين بنوا عائلاتهم رغم الحصار والدمار، يعمل على بسطة لبيع الملابس والتي كان منها يوفر دخلا لإعالة أسرته، "كانوا راضيين بهالعيشة وساتر حاله وكافي بيته وما شاء الله عليه الكل بحبه وهو منيح مع الكل" ختم قريبه الذي أكمل رحلة بحثه عن مكان ينقله إليه.

ما أعطى العائلة بصيص أملٍ، عندما زارته أمه وخالته أمس بالمشفى، وتزامن ذلك مع زوال آثار المسكنات، تروي خالته رائدة لصحيفة "فلسطين": "وضعنا آذاننا على مسافة قريبة منه، سمعناه بصوته الخافت يسألنا: "وين أولادي!؟" ثم تشتت تركيزه، ربما هو يعيش صدمة أو شبه فقدان جزئي للذاكرة، لأن هناك أشياء يعرفها وأخرى لا يعرفها".

وتعلق: "قلت لأمه أن ما يعانيه ربما صدمة، وطوال الوقت يحصل على مهدئات ويبقى نائما، وعندما يستيقظ يظهر تضايقا من الوضع الذي يعيشه ويحاول إزالة الشاش الذي يلف وجهه لكنه يستطيع التحرك والجلوس".

تروي خالته الحدث من زاوية أخرى، فتقول: "بالبداية أخرجوا الأم من تحت الردم ومعها ولدين وبنت، وشيعوهم، ثم عادوا مرة أخرى وأخرجوا بقية الأولاد الشهداء وشيّعوهم".

وتردف بعامية مليئة بالقهر "مش حرام أطفال ما شافوا وجه الحياة هيك يرحوا، كانوا يستنوا العيد ويفرحوا فيه، ايش ذنبهم؟".

وخلال الحرب تنقلت العائلة في رحلة نزوح وتشرد بين عدة عمارات وبنايات سكنية، ومن مكان إلى آخر، وفي فترة من فترات التجويع أرسل يوسف اثنين من أبنائه لجنوب القطاع لمدة شهرين ثم عادوا إليه بتنسيق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

اخبار ذات صلة