تستند إلى حائط المشفى، تملأ وجهها عدة ثقوب، ومثلها في القلب، وثقب في الروح. بعينين غارقتين في الدموع وقلب يعتصره الألم، تجلسُ بجانب جثامين ستة أفراد من عائلتها الشهداء، بينهم طفلان وأمهما الحامل في شهرها الثامن، التي استشهدت برفقة جنينها فجر أول من أمس، بقصف منزل عائلة "أبو عكر" على رؤوس ساكنيه في حي الشجاعية شرق مدينة غزة. تحيط بها نساء من العائلة، كلٌّ منهن تحاول التخفيف عن الأخرى.
"خلاص، وحّدي الله، لهم الجنة"، بتلك الكلمات التي كسرت جدار الصمت المخيّم لدقائق على ساحة مشرحة المشفى المعمداني بمدينة غزة، يربت أحدهم على كتف أحد الناجين من المجزرة، الغارق هو الآخر في دموعه.
كانت عائلة أبو عكر تستعد لتناول طعام السحور، استعدادًا لصيام يوم جديد في شهر رمضان، وقبل أن يستيقظ معظم أفراد العائلة البالغ عددهم 16 فردًا، تعرض المنزل للقصف الإسرائيلي، مما أدى إلى استشهاد سبعة أفراد، بينهم الحاجة ماجدة أبو عكر (63 عامًا)، وأولادها حسين (27 عامًا)، وأحمد (34 عامًا)، ومحمود (37 عامًا)، الذي استشهد برفقة زوجته نورا وجنينها، وطفليه سلمى (سنتان) وسلامة (3 سنوات)، لتمحى العائلة من السجل المدني.
تهاوي البيت
"قريب السحور، استيقظنا على حجارة البيت المكون من أربعة طوابق تتساقط فوق رؤوسنا. سقط جدار السقف على ناحيتي، وارتطمت حجارته بوجهي وكتفي ويدي. بدأنا بالصراخ والمناجاة، وساعدنا الجيران وطواقم الدفاع المدني في إخراج المصابين والشهداء"، تخرج الكلمات المحملة بالدموع من كنة العائلة الناجية، وهي تروي لصحيفة "فلسطين" اللحظات التي سبقت المجزرة.
كغيرهم من النازحين، عادت عائلة أبو عكر بعد رحلة نزوح طويلة إلى جنوب القطاع، إلى منزلهم غير الصالح للسكن والآيل للسقوط، والمكون من أربعة طوابق. لم يجد ستة عشر فردًا سوى غرفة واحدة يمكنهم العيش فيها، فتغلبوا على مخاوف سقوطه عليهم، وسكنوا به محاولين التمسك بالحياة.
كان يكفي أن يمر صاروخ إسرائيلي من أمام المنزل أو ينفجر بجانبه ليهوي بمن فيه ويُسوّى بالأرض، وكما لم يرحم الصاروخ الإسرائيلي سكان المنزل، لم يرحم حجارتهم المتهالكة نتيجة القصف الأول الذي تعرض له، وحجارته المفرغة.
على زاوية أخرى من المشهد، تحاول "وداد" التواري عن الأنظار، تبكي بصمت. بمجرد أن سمعت خبر استشهاد شقيقة زوجها الحاجة "ماجدة"، جاءت من جنوب القطاع عبر شارع الرشيد، ولم تأبه لإمكانية إغلاق الطريق عليها في حال تصاعدت الأحداث، فـ "ما قدمته الشهيدة الحافظة لكتاب الله، يستحق أن تأتي لها من آخر الدنيا لتعزيتها وإلقاء نظرة الوداع الأخيرة"، تقول وداد أبو عكر لـ "فلسطين أون لاين".
مع إطلالة الصباح، رن هاتفها المحمول، وظهر على الشاشة اسم أحد الأقارب المتواجدين في غزة، لينقل لها الخبر الصادم. تتابع وهي تجاهد نفسها لتجفيف دموع ملونة بالحسرة، يتحشرج بها صوتها: "كانت نازحة عندنا في جنوب القطاع، وعادت لمنزلها قبل نحو شهر، كنا هناك نلتقي دوما. كنت أعدّها أما ثانية لنا لحسن خلقها وتعاملها مع الجميع، فالكل يحبها".
تترك وداد صرخة وجع في جدار صمت العالم: "هل سيتحركون وهم يرون أما حاملا في شهرها الثامن تُقتل، ويخرج جنينها من بطنها شهيدًا؟ وبجانبها طفلان صغيران، لا يتجاوز عمر أصغرهما ثلاثة أعوام، برفقة زوجها! عن أي جريمة يصمت العالم؟ حسبنا الله ونعم الوكيل".
خبر ثقيل
"الله يرحمك يا أمي. دير بالك على إخوتي"، بكلمات تكاد تخنق أنفاسها، ترثي "نعيمة" والدتها الشهيدة وأخوتها. تسند رأسها المليء بالوجع والقهر على كفيها، وتروي المشهد من زاوية أخرى: "كنت في منزلي وتلقيت اتصالا، أخبرني أحد الأقارب أن بيت عائلتي تعرض للقصف، شعرت أن الدنيا توقفت، وسقطت على الأرض من ثقل الخبر".
تلملم دموعها المتناثرة على جثامين الشهداء، وتحكي عن وجع العائلة: "عادوا لبيت متهالك لا يصلح للسكن، استصلحوا فيه غرفة واحدة، كانوا بها يحاولون التأقلم مع الحياة ويصرون عليها، ليؤكدوا أننا شعب صابر ونستطيع تحمل كل شيء. كان المهم بالنسبة لهم أنهم عادوا لمنطقتهم، لكنهم عادوا ليستشهدوا".
أدت العائلة صلاة الجنازة بعد نظرة الوداع الأخيرة، وحملت الجثامين على أكتاف الرجال، تلهج ألسنتهم بصيحات "الله أكبر" و"الشهيد حبيب الله". وبينما كانت نساء العائلة يتابعن الجنازة بنظراتهن التي فصلت بينها عشرات الأمتار مع ابتعاد المشيعين، وأصواتهن وإشارة الوداع بأيديهن، قالت إحداهن: "بدري عليهم".
شهادات ناجين
في داخل قسم الطوارئ بالمستشفى المعمداني، يجلس المصاب محمود العرقان على أحد الأسرّة، بعد تعرضه لإصابة بكسور في الجمجمة نتيجة القصف الذي أدى إلى تضرر البيوت المحيطة وإصابة من فيها.
بجواره، يجلس والده خميس العرقان، الذي عاش لحظات عصيبة أثناء القصف، يعيد رسم تفاصيلها لصحيفة "فلسطين"، وهو يجلس على طرف السرير قائلا: "تناولت طعام السحور، وبدأت بالوضوء استعدادا لصلاة الفجر، وحينها وقع انفجاران متتابعان في بيت جيراننا، ووصل تأثيره إلى منزلنا الذي امتلأ بالحجارة والشظايا والغبار".
يحرك بقية المشهد: "وجدت ابني محمود مصابا في الرأس، فحملناه ونزلنا به إلى الأسفل. كان هناك صعوبة في وصول الإسعاف إلينا، نتيجة امتلاء الطريق الواصل إلى منزلنا بالركام والحجارة، واستمر ذلك نصف ساعة وهو ينزف ويصرخ من الوجع. كنت أخشى أن يلفظ أنفاسه بين يديّ، كل دقيقة مرت حينها كأنها شهر، خاصة أن الإصابة في الرأس".
عاد العرقان، كحال عائلة أبو عكر، من رحلة نزوح طويلة من جنوب القطاع، واستصلح أجزاء من بيته، الذي أدى القصف إلى القضاء عليه وتدمير بقاياه بالكامل، ليعيش تشردًا من جديد، يضاف إليه إصابة ابنه في الرأس.