"كنا نائمين في بيتنا الذي استأجرناه قبل شهر، وبدأنا نسمع أصوات القصف وارتجاج المباني، فقلت لأمي: الحرب بدأت من جديد". بالكاد انتهت إسراء العرعير من حديثها مع والدتها، حتى اكتسى فضاء المنزل بالحجارة والغبار، وحاصرتهم النار الناتجة عن قصف شقة مجاورة لهم.
على أصوات انفجارات متتالية عند الساعة الثانية فجر الثلاثاء، كتب الاحتلال الإسرائيلي فصلًا دمويًا جديدًا، انقلب خلاله على اتفاق وقف إطلاق النار الساري منذ 19 يناير/ كانون الثاني 2025، وارتكب مجازر دموية استُشهد خلالها نحو 500 شخص في مدن ومناطق مختلفة بقطاع غزة، ليستيقظ الأهالي صباح الثلاثاء على مشاهد التشييع والجثامين التي تملأ المستشفيات، ونظرات الوداع، والنزوح والتشرد، وسط تفاقم حالة التجويع مع استمرار إغلاق المعابر.
ركام ونار
تروي العرعير لـ "فلسطين أون لاين" تفاصيل المجزرة التي راح ضحيتها 17 شهيدًا، قائلة: "تساقط علينا الركام واشتعلت النيران، حملت طفلتي وحاولت الخروج بها، وكانت العتمة شديدة فلم أرَ شيئًا سوى نار مشتعلة تحاصرنا، فانتظرت حتى خمدت. بدأت بالصراخ طلبًا للمساعدة، وكان السكان يبحثون عن الشهداء ويحاولون إخراج المصابين".
أُصيبت العرعير برضوض ناتجة عن تطاير الركام عليها، وسادت حالة من الفوضى العارمة في البرج المستهدف بمدينة حمد بمحافظة خان يونس، حيث تعالت أصوات الصراخ وبكاء الأطفال والنساء، وسط الخوف والرعب وأصوات الاستغاثة ومحاولات انتشال الشهداء. تضيف: "استُشهد جيراننا عبد الله أبو مصطفى وزوجته وطفلته تحت الأنقاض، وعندما نزلت للاحتماء بالطابق الأول، وجدت جارنا الآخر أبو ياسر خلف الله وزوجته تحت الأنقاض أيضًا".
تسترسل وهي تستعيد بقية التفاصيل: "خرجنا من المكان، وتفاجأت بأن الدم يسيل من رأس شقيقتي. كانت طفلتي عبير (4 سنوات) خائفة. كنا نريد إعداد طعام السحور، لكن الطعام كان مغموسًا برائحة الموت والصواريخ والقتل. مرت 24 ساعة، ولا أستطيع نسيان هذا الكابوس، ولا أتخيل أنني نجوت منه".
بعد القصف الذي دمر أجزاء من البرج، خرجت العرعير مع والدتها وأختها وشقيقها، ليجدوا أنفسهم بلا مأوى في رحلة نزوح وتشرد مستمرة، بحثًا عن مأوى جديد. تقول: "لا يفارق المشهد مخيلتي. كان هناك حياة قبل القصف، كنت أتحدث مع الجيران عن اقتراب العيد، وكيف سنزور صلة الأرحام بعد فترة من الحرب والحرمان".
خلال الحرب، فقدت العرعير زوجها ياسر الطويل، وقبل الحرب بأشهر، توفيت طفلتها الرضيعة مريم إثر توقف قلبها نتيجة القصف. كما استُشهد شقيقاها، وعمتها، وأبناء خالتها. ولم تكن هذه النجاة الأولى لها، إذ تعرض منزل استأجرته في رفح لأضرار بليغة نتيجة تدمير مسجد مجاور، حيث عاشت ليلة دامية لا تفارق أحداثها ذاكرتها: "نجونا حينها بأعجوبة عندما تطاير الركام علينا وخرجنا من تحت الأنقاض".
أشلاء متناثرة
ظهر الثلاثاء، ومع دوي انفجار كبير أمام مستشفى الرنتيسي بمدينة غزة وتصاعد ألسنة اللهب، توقف مازن المقوسي عن بناء خيمته عندما سمع صرخة زوجته: "أولادي.. إلحقهم!". كان أبناؤه يعملون في بسطة أمام المشفى.
يروي المقوسي تفاصيل المشهد لـ "فلسطين أون لاين"، وهو يجلس بجانب ابنه المصاب في قسم الطوارئ بمستشفى الشفاء: "عندما سمعت صوت القصف ورأيت الدخان يتصاعد، خشيت على أبنائي. وحين وصلت إلى المكان، كان المشهد مرعبًا؛ وجدت ابني محمود (16 سنة) مستشهدًا، أما أنس (13 سنة) فكان مصابًا في منطقة الحاجب".
أما أنس، الذي يلف الشاش رأسه، فكان يحدق بصورة شقيقه محمود المسجّى بالكفن، ينظر إليها والدموع تسيل من عينيه. يروي عن آخر اللحظات: "كنا سعداء، نبيع على البسطة محاولين تحصيل قوت يومنا. لا نعرف لماذا قُصفنا، وما ذنب أخي ليُقتل بهذه الطريقة؟".
صرخة ألم
على سرير مجاور، كان الطفل يزن مقداد يصرخ من شدة الألم، مع تفاقم معاناته من شظية استقرت برأسه. كان يتقلب من الوجع على السرير الطبي في قسم الطوارئ، ويصرخ: "راسي بتتفجر"، دون أن يجد ما يسكن ألمه.
أُصيب مقداد في المجزرة الدموية أمام مستشفى الرنتيسي، وفقد خلالها صديقه محمود المقوسي الذي كان يجلس معه. تروي والدته لـ "فلسطين أون لاين" وهي عاجزة عن تسكين آلامه وإيقاف صراخه الذي يدوي في قسم الطوارئ: "كنت أراه أمامي، وعندما حدث الاستهداف رأيتهم يتطايرون من شدة القصف. ركضت نحوه وأنا أصرخ وأبكي، خشيت أن أفقده".
عائلات أُبيدت بالكامل
في مجزرة مدرسة التابعين بمدينة غزة، التي استُشهد خلالها نحو 30 شخصًا، إثر قصف طال الطابق الرابع بالجهة الغربية، كانت الشهداء من عائلات الجندي، قوتة، والغفري.
كانت عائلة قوتة تستعد لإخراج حبات من التمر عن روح والدهم الشهيد أحمد رجب شعبان قوتة، لكن قبل أن تُخرج الصدقة، التحقت به العائلة، وتناثرت حبات التمر بين ركام الطابق المستهدف. استُشهد محمد شعبان قوتة (سنة واحدة)، وشقيقته ميرنا (11 سنة)، ووالدتهم نورا (35 سنة)، وشقيقتهم فرح (19 سنة)، التي استُشهد زوجها محمد نعيم شعبان برفقة والدها أحمد. وحده رامز (16 سنة) نجا من العائلة، لكنه أصيب بجروح مختلفة ويستعد لإجراء عملية جراحية بعد يومين.
تقول جارتهم، أم أحمد، لـ"فلسطين": "تأثرت أم رامز باستشهاد زوجها، وعانت كثيرًا في تربية أولادها بعد رحيله. لحظة القصف كانت دامية، استيقظنا على قصف دموي متزامن، واهتزت جدران المدرسة، ولم نستطع معرفة من فقدنا حتى حلّ الصباح".
منزل الحتة.. جريمة أخرى
في شارع النفق، عاد الصحفي إبراهيم الفصيح من تغطية لدوري رمضاني لكرة القدم في محاولة لتنشيط الرياضة. وبعد ساعتين من نومه، استيقظ مع أهالي القطاع في فزع، مع اهتزاز جدران شقته، وتطاير الركام القادم من منزل وكيل وزارة العدل، أحمد الحتة.
يحكي الفصيح لـ"فلسطين أون لاين": "ارتعبت من الصوت والانفجارات، وسادت في الحي حالة من الفوضى والخوف. وعندما خرجنا، وجدنا منزل الحتة قد دُمّر بالكامل، واستُشهد جميع أفراد عائلته".