في الوقت الذي يحاول فيه المواطنون التغلب على واقع الدمار والحصار، تستمر انتهاكات الاحتلال، لتؤكد أن حرب الإبادة الجماعية لا تقتصر على الصواريخ والرصاص، بل تمتد لسلب حرية العبادة، في انتهاك صارخ لكل الأعراف والقوانين الدولية.
واستأنف جيش الاحتلال الإسرائيلي غاراته المكثفة على قطاع غزة منذ يومين، في خرق واضح للاتفاق الذي تم التوصل إليه مع المقاومة، موقعًا المزيد من الضحايا في صفوف المدنيين.
وبينما كانت غزة تنتظر رمضان هذا العام بشيء من الأمل بعد وقف إطلاق نار دام 42 يومًا، عادت آلة الحرب الإسرائيلية لتقضي على أمنيات المواطنين في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية.
محمود علي، مؤذن مسجد الصفا والمروة في مخيم الشاطئ، يقول انه في الساعات الأولى من يوم الثلاثاء، ومع استئناف الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة، تعذر عليه الوصول إلى المسجد، بعدما طالت الغارات مناطق قريبة منه. يقول محمود بأسى: "كنت أذهب كل ليلة قبل الفجر لأرفع الأذان وأنبه الناس للسحور، ولكن هذه الليلة بقيت في البيت خوفًا على حياتي، فقد طلبت منا وزارة الأوقاف أن نحذر الناس بعدم الصلاة جماعة حفاظًا على أرواحهم".
وكانت قوات الاحتلال قد دمرت بشكل كلي 224 مسجدًا منذ بدء العدوان، بينما تعرضت 286 مسجدًا آخر لأضرار جزئية، بعضها لا يصلح للصلاة فيه.
ورغم هذا الدمار، سارع المواطنون والجهات الرسمية والأهلية، إلى إقامة مصليات مؤقتة بديلة في المناطق السكنية. تمت تغطية هذه المصليات بالشوادر والنايلون، وكانت تهدف إلى توفير مكان للصلوات اليومية وصلاة التراويح، إضافة إلى الاعتكاف في العشر الأواخر من الشهر الكريم. لكن عودة القصف الإسرائيلي مؤخرًا أفسدت هذه الجهود.
محمد بارود، أحد المشرفين على مسجد إسماعيل أبو شنب في الشاطئ الشمالي، يقول: "أنهينا تجهيز المصلى الجديد وأعددنا جداول المعتكفين، كنا نحلم أن نعوض الناس عن رمضان الماضي الذي حُرموا فيه من الاعتكاف، لكن الاحتلال قتل هذا الحلم مجددًا". وأضاف: "قبل أيام، كنا نجهز المصلى لاستقبال المصلين، واليوم نطلب من الناس أن يلزموا بيوتهم خوفًا من استهداف جديد".
هذه المصليات المؤقتة لم تكن فقط أماكن للعبادة، بل شكّلت نقطة التقاء للمجتمع، حيث كان الناس يجدون العزاء والسلوى وسط الحرب والدمار. غير أن استمرار الاستهداف الإسرائيلي جعل حتى هذه المساحات الهشة غير آمنة.
الحاج أبو فادي عبيد، من أهالي حي النصر، كان ينوي الاعتكاف في المصلى المؤقت الذي أقيم بعد تدمير مسجد الزهور، لكنه وجد نفسه مضطرًا إلى إلغاء خططه. "كنت أنتظر العشر الأواخر بفارغ الصبر، أردت أن أجد راحة روحيّة في المسجد ولو تحت الشادر، لكن القصف عاد وحرمني حتى من هذا الحق البسيط"، يقول أبو فادي بصوت تختلط فيه الحسرة بالإصرار، ويضيف: "سأجمع أبنائي ونصلي في المنزل، رغم أن القصف قد يطالنا في أي لحظة، فلا مكان آمن هنا".
وزارة الأوقاف بدورها، طالبت المواطنين بالصلاة في منازلهم والتوقف عن إقامة صلاة الجماعة في المساجد المؤقتة، بعد استهداف العديد من المناطق المدنية بالقصف، وهو ما اعتبرته "جريمة جديدة تضاف إلى سلسلة الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، عبر حرمان شعبنا من أبسط حقوقه، ومنها حرية العبادة".
وأشارت الوزارة إلى أن العدوان الإسرائيلي لا يستهدف البشر والحجر فحسب، بل يسعى لقتل الروح الفلسطينية، عبر استهداف المساجد وبيوت الله، وحرمان المسلمين من أداء شعائرهم في شهر رمضان المبارك. وأكدت أن طواقمها وفرق المتطوعين عملت بعد على تجهيز المصليات المؤقتة، إلا أن عودة القصف جعل مهمة توفير أماكن آمنة للصلاة شبه مستحيلة.
كما لم تتوقف جهود المجتمع المحلي، فقد بادر المواطنون بنصب الشوادر فوق الأراضي المفتوحة والأنقاض لإقامة الصلاة، وزوّدوا هذه المساحات بسجاجيد بسيطة ومصاحف، إلا أن الخطر كان دائمًا حاضرًا، مع تحليق الطائرات في الأجواء وقصفها العشوائي.
والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان هو تقليد ديني راسخ لدى الفلسطينيين في غزة، الذين يعتبرون المساجد مركزًا لحياتهم الروحية والاجتماعية، وحرمانهم منه شكل انتهاكًا صارخًا لحقهم في حرية العبادة. ورغم ذلك، يصر كثيرون منهم على الحفاظ على الشعائر، ولو داخل بيوتهم، متحدّين آلة الحرب الإسرائيلية.
لكن، كما يقول محمود علي مؤذن مسجد الصفا والمروة، فإن "الأذان سيظل يُرفع، ولو من فوق سطح البيت، والصلوات ستُقام، ولو في أضيق المساحات... نحن هنا ثابتون حتى ينكسر هذا العدوان".