لم تتخيل عبير خالد (23 عاما) أن فرحتها بالحمل ستتحول إلى مأساة تحملها في قلبها أكثر مما حملت جنينها في رحمها. جلست على فراشها المهترئ في جزء من منزلها الذي تعرض للقصف خلال حرب الإبادة في حي الرمال وسط غزة، تحكي بصوت مخنوق عن حلمها الذي ضاع بين الأنقاض ونقص الدواء.
تقول عبير لصحيفة "فلسطين": "كنت أحلم أن أصبح أما، أحلم أن أضم طفلي بين ذراعي، وأرى فيه كل الأمل الذي ضاع مني بالحرب.. لكن الاحتلال ما ترك لي حتى هذا الحلم الصغير".
شخص الأطباء حالتها منذ عامين بأنها مصابة بتخثر الدم، وأخبروها أن الحمل لن يستمر دون إبر الهيبارين التي تمنع تكوّن الجلطات وتساعد على إيصال الغذاء والأكسجين للجنين. حين علمت أنها حامل، شعرت أخيرا بأن الحياة قد منحتها فرصة جديدة، لكنها لم تكن تعرف أن هذه الفرصة محكومة بالإعدام منذ البداية.
انهيار الأمل
تضيف عبير: "أول ما عرفت إني حامل، ركضت عيوني للسماء وقلت يا رب يتمم لي على خير. لكن لما رحت أبحث عن الهيبارين، قالوا لي الصيدليات كلها فاضية.. الدواء مش موجود. حاولت أبحث بكل مكان، ما خليت حد إلا وطلبت منه يدور، وما لقيت غير اليأس".
مرّت الأيام، وكبر الخوف في قلبها أكثر من الجنين في بطنها. مع كل آلام تشعر بها، كانت تتمنى أن يكون مجرد تعب طبيعي، لكنها في النهاية فقدت جنينها في الشهر الثاني.
وتتابع: "حسيت جسمي كله ينهار. نزل الجنين وأنا ماسكة بطني وأصرخ.. كنت حاسة إنه روحي بتطلع معاه. ابني مات قبل ما أشوف وجهه، ومات معاه جزء مني ما رح يرجع".
تمسح دموعها التي خذلتها رغم محاولتها التماسك، وتضيف بصوت مرتعش: "أنا ما فقدت جنين.. فقدت أمومتي، فقدت حالي. الاحتلال مش بس قصف بيوتنا، قصف أحلامنا، قتل أطفالنا قبل ما يولدوا".
تشير عبير إلى أن أكثر ما يزيد ألمها هو إحساسها بالعجز، فهي لم تخسر بسبب قدرٍ محتوم، بل بسبب حصار منع عنها الدواء: "لو كانت الإبرة موجودة، كنت اليوم أم.. كنت راح أحمله بحضني بدل ما أحمل وجعه في قلبي. مشكلتي مش صحية.. مشكلتي إننا محاصرين، ممنوعين من الحياة، حتى أدوية النجاة مش مسموح تدخل لغزة".
تختم عبير حديثها وعيناها تحدقان بعيدا في الأفق: "الحرب سرقت مني كل شيء.. لكن أكثر شيء وجعني، إنهم سرقوا مني كلمة "ماما".
ومنذ مطلع مارس الجاري، أغلقت دولة الاحتلال حاجز كرم أبو سالم — الشريان الوحيد الذي تتدفق عبره البضائع والوقود والأدوية — لتضاعف مأساة الغزيين المحاصرين. لم يعد الإغلاق يعني فقط نفاد الطعام والوقود، بل امتد ليخطف ما هو أثمن: أرواح الأجنة التي لم تخلق بعد.
بين جدران المستشفيات الفارغة والصيدليات التي لم يبق على رفوفها سوى الغبار، تبحث النساء الحوامل عن "إبرة الهيبارين"، الأمل الوحيد لحماية أجنتهن من الإجهاض الناتج عن تخثر الدم. لكن الإبرة باتت حلما بعيد المنال، بعدما توقفت قوافل الدواء عند بوابة المعبر المغلقة، واصطدمت حياة الأمهات بقرارات سياسية احتلالية لا تعرف الرحمة.
أمومة معلقة بين الحياة والموت
في صيدلية صغيرة بحي النصر بمدينة غزة، وقفت دعاء (30 عامًا) تحمل بيدها وصفة طبية، وبالأخرى تمسك بطنها بحنان مشوب بالخوف. سألت الصيدلي بصوتٍ مرتجف: "لو سمحت، في عندكم إبرة هيبارين؟"
رفع الصيدلي رأسه، ثم هزّه بأسف: "للأسف، مش متوفرة من فترة طويلة".
ارتجفت شفتاها وهي تحاول أن تتمالك نفسها. قالت بصوت مخنوق: "أنا حامل بشهري الثالث، وعندي تخثر دم.. الدكتور قال لي لازم آخد الإبرة يوميا عشان يعيش جنيني. أنا خايفة عليه.. خايفة يروح مني مثل اللي قبله".
أغمضت عينيها للحظة وكأنها تحاول طرد فكرة فقدان جنينها من رأسها، ثم تابعت: "أنا ما بدي أفقده، تعبنا كتير لنحمل فيه. كل ليلة بحط إيدي على بطني وبحكي معه، بقوله اصبر يا ماما.. بس والله ما في بإيدي شي. إذا الإبرة ما دخلت غزة، رح أفقده.. ورح أفقد جزء مني معاه".
على الطرف الآخر من الصيدلية، وقف الصيدلي وهو يشاهد دعاء تحاول كتم دموعها. تنهد بحرقة، وكأنه يعيد مشهدًا رآه مئات المرات، وقال لصحيفة "فلسطين": "أنا يوميًا بشوف عشرات السيدات يطلبوا الهيبارين، وقلبي بيتقطع عليهم.. بس شو بدي أعمل؟ الاحتلال منع إدخالها مع أغلب أدوية الأمراض المزمنة. عندي سجل طويل بأسماء ناس ينتظرون لو وصلت أي دفعة، بس صار لي شهور ما شفت ولا علبة".
يتوقف لحظة، ثم يتابع بصوت ممتزج بالغضب والحزن: "الهيبارين ليس مجرد إبرة.. هي أمل للحامل التي تعاني من تخثر دم. هذه الإبرة تمنع الجلطات التي تقطع الغذاء والأكسجين عن الجنين، وبدونها الحمل ينتهي بالإجهاض".
وأضاف: "كل يوم يتأخر فيه الدواء، هناك روح بريئة تموت.. وهذا ليس فقط ظلم، هذا قتل بدم بارد".
خرجت دعاء من الصيدلية بخطوات ثقيلة، وكأنها تجر معها قلبها المثقل بالخوف. همست لنفسها وهي تمسح دمعة نزلت رغماً عنها: "مش عارفة شو ذنبه جنيني.. ليش ينحكم عليه بالموت وهو لسا ما شاف النور؟".
عقاب جماعي
ونددت منظمة "أطباء بلا حدود" بشدة بالحصار الذي تفرضه دولة الاحتلال على قطاع غزة، معتبرة إياه "عقابا جماعيا" يفاقم الأزمة الإنسانية في القطاع.
وأوضحت المنظمة في بيان لها أنها لم تتمكن من إدخال سوى ثلاث شاحنات محملة بالإمدادات الطبية إلى غزة منذ 27 فبراير الماضي، في وقتٍ تتزايد فيه حاجة المستشفيات والأهالي إلى الأدوية والمعدات الطبية المنقذة للحياة.
وأكدت المنظمة أن دولة الاحتلال تمنع دخول المساعدات وتقطع الكهرباء عن القطاع، مما يؤدي إلى نقص حاد في المياه ويهدد حياة المدنيين، داعيةً إلى احترام القانون الدولي ورفع الحصار فورا.
كما أشارت إلى أن سلطات الاحتلال تستخدم نظاما بيروقراطيا معقدا لعرقلة وصول الإمدادات الحيوية، ما يفاقم معاناة المرضى ويعيق عمل الطواقم الطبية التي تكافح لإنقاذ الأرواح وسط نقص حاد في الموارد.