في قلب مدينة غزة، وتحديدًا في أرقى أحيائها، كانت ساحة الجندي المجهول في حي الرمال شاهدة على نبض الحياة اليومية، حيث تجمُّع العائلات للتنزه، والبائعون لعرض بضائعهم، وأصحاب المحال التجارية لمزاولة أعمالهم.
كانت رمزًا للحيوية والنشاط الاقتصادي، لكنها تحوّلت بفعل حرب الإبادة إلى واحة من الدمار والخراب، تكسوها الأنقاض والركام والنفايات، وتحيط بها خيام النزوح والمباني المدمَّرة جزئيًا وكليًا والآيلة للسقوط أيضًا.
بين الأمس واليوم
طيلة السنوات العشرين التي سبقت الحرب الإسرائيلية، كانت ساحة الجندي تعجّ بالحركة، إذ يُقبل المواطنون على المحال التجارية للتسوق، والمطاعم لتناول أشهى الوجبات، وعربات الباعة المتجولين، إلى جانب مساحات محاطة بالأشجار مخصَّصة للترفيه والتنزه.
واليوم، لم يبقَ من هذه الصورة سوى مشاهد الدمار التي تهيمن على المكان، بينما يحاول المتضررون التقاط أنفاسهم وسط الركام.
شنَّ جيش الاحتلال حربه المدمّرة على غزة يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، واستمرت 471 يومًا، تعرضت ساحة الجندي خلالها لثلاثة اجتياحات برية، رافقها قصف جوي عنيف وعمليات تجريف دفنت معالمها الجميلة تمامًا.
ارتبط عبد الرحمن الحصري لسنوات طويلة بساحة الجندي، إذ كان يتردد عليها يوميًا لافتتاح متجره الخاص بالإكسسوارات والعطور، قادمًا من حي الزيتون جنوبي مدينة غزة. يقول لـ "فلسطين أون لاين": "آتي يوميًا إلى هذه الساحة. علاقتي بها ليست تجارية فحسب، بل إن روحي معلَّقة بها".
اعتاد الحصري (45 عامًا) قضاء ساعات طويلة في محله المطلّ على ساحة الجندي، بدءًا من الصباح وحتى المساء، مستقطبًا الزبائن من مختلف الأعمار لبيعهم ما تبقى لديه من منتجات.
"لكن الحركة الشرائية تراجعت بشكل غير اعتيادي بعدما غيَّر جيش الاحتلال معالم المنطقة، وأحلَّ الدمار في كل مكان"، أضاف الحصري وهو يحاول ترميم متجره الصغير وإصلاح بعض الأضرار التي لحقت به. وتابع: "يقتصر عملي حاليًا على بضع ساعات فقط في النهار، فليس لدينا كهرباء لإضاءة المحل ومواصلة العمل مساءً".
أحمد ميلاد، الذي يملك متجرًا لبيع المستلزمات النسائية من شالات وحقائب، يواجه مشكلة كبيرة في بيع منتجاته. يقول: "إن الدمار في ساحة الجندي أضعف حركة المواطنين، فقبل الحرب لم تكن الساحة والأرصفة من حولها تفرغ من الزبائن".
وأضاف ميلاد (42 عامًا): "افتتحت متجري عام 2002، لكنني لم أعايش ظروفًا صعبة وركودًا شبه تام كما أمر به الآن. يأتي الزبائن لمشاهدة المنتجات فقط، والغالبية منهم لا يملكون ثمنها".
"في السنوات الماضية مررنا بحصار مشدد على غزة، لكن تداعياته لا تشبه آثار حرب الإبادة والحصار الإسرائيلي المرافق لها. لقد تضررنا في كل أمور حياتنا، ولم يعد أمامنا سوى الصمود حتى تجاوز الأزمة الراهنة"، تابع ميلاد بنبرة تحدٍّ.
واستقطبت ساحة الجندي قبل الحرب آلاف المواطنين يوميًا، ممن كانوا يمرون عبرها أو يأتون للجلوس تحت ظل أشجارها الخضراء. "لسنوات طويلة اعتبرتها متنفسًا لنا نقضي فيها أجمل الأوقات، أما الآن فلم يتبقَّ منها شيء سوى الدمار"، قال نضال درويش، وهو ممن كانوا يرتادون الساحة مع أطفاله باستمرار.
نظر إلى الساحة وأومأ برأسه آسفًا قبل أن يضيف لـ"فلسطين": "لا أصدق أن مكانًا كان يعجّ بالحياة أصبح أرضًا قاحلة وركامًا".
أما الفتى محمد بكر، بائع القهوة المتجول، فيروي معاناته وهو يشير بيده إلى ساحة الجندي: "كنت أقف هنا كل صباح أبيع القهوة للمارة، أما الآن فحتى الشوارع التي كنت أتنقل فيها اختفت تحت الركام، ولم يعد هناك مارة حتى أستمر في عملي".
تاريخ سحقته (إسرائيل)
سُمّيت ساحة الجندي بهذا الاسم نسبةً إلى النصب التذكاري للجندي المجهول، والذي دمّرته آلة الحرب الإسرائيلية، ما دفع بلدية غزة إلى استنكار استهداف جيش الاحتلال أحد أهم المعالم التاريخية في المدينة.
وبحسب بيان نشرته البلدية على موقعها الإلكتروني، فإن النصب التذكاري للجندي المجهول شُيِّد عام 1956، ويرمز إلى تضحيات الشعبين الفلسطيني والمصري في الدفاع عن الحقوق الوطنية.
وقالت في بيانها: "إن حديقة الجندي والنصب التذكاري معلمان ثقافيان وحضاريان، وإن تدميرهما يندرج ضمن العدوان الهمجي الإسرائيلي وقتله آلاف المدنيين"، مطالِبةً منظمة الثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة "اليونسكو" ومنظمة البيئة العالمية بإدانة انتهاكات الاحتلال.
ولم يقتصر الاستهداف الإسرائيلي المتعمّد على ساحة الجندي فحسب، بل طال أيضًا مناطق مركزية في حي الرمال، الذي يحتضن في قلبه تلك الساحة. وكانت مقاتلات جيش الاحتلال قد دمّرت ما يُعرف بـ"مربع أبو الكاس" بسلسلة أحزمة نارية في بداية حرب الإبادة.
ووفقًا للمؤرخ الفلسطيني سليم المبيض، فإن حي الرمال يُعدّ من أعرق وأقدم الأحياء في مدينة غزة، وقد بدأ إعماره في عهد فهمي بيك الحسيني، الذي تولى رئاسة بلدية غزة في عشرينيات القرن الماضي.
كان حي الرمال عبارة عن ساحة رملية، سعى الحسيني إلى إعمارها من خلال تقسيمها إلى أراضٍ منفصلة بمساحة دونم (ألف متر مربع) للقطعة الواحدة، بقيمة 3 جنيهات مصرية، محاولًا إغراء فئات مختلفة من المجتمع. ولاقت الفكرة استحسان قطاع الموظفين، فاقبلوا عليها، بحسب قوله لـ"فلسطين أون لاين".
ويُعرف الحسيني بأنه شخصية وطنية وقانونية متميزة، درس القانون في إسطنبول، وتولى رئاسة البلدية بتاريخ 5 مايو/ أيار 1928، كأول من يشغل هذا المنصب بالانتخابات، ومعه 11 عضوًا في المجلس البلدي، بحسب موقع بلدية غزة.
وكان هدف الحسيني من إعمار حي الرمال – كما قال المبيض – بسبب مخاوف أُثيرت من إمكانية إقدام الاستعمار البريطاني على إقامة مستوطنات في نفس المكان. حتى إنه لجأ إلى تقسيم الأراضي إلى نصف دونم وبيعها بالأقساط في محاولة لتمليك أكبر عدد من المواطنين، ونجحت فكرته في حينه، وامتلكت فئة واسعة من الموظفين الفلسطينيين في غزة قطع أراضٍ.
ومنذ ذلك الحين، شهد حي الرمال حركة إعمار كبيرة، ليصبح أرقى الأحياء السكنية والتجارية في مدينة غزة، إلى أن جاءت آلة الحرب الإسرائيلية، مخلفةً وراءها ركامًا وخرابًا.