في ظروف قاسية، تعيش المرأة في قطاع غزة أوضاعًا كارثيةً، سببتها حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، ووضعت المرأة في ظروف لم تعتد عليها من قبل، فقدت خلالها الزوج والابن أو كل العائلة، نزحت وتشردت، عاشت الحصار والتجويع، والخوف والقلق، وأصيبت وعملت وكابدت أعباء الحياة التي تلاحق الشعب الفلسطيني حتى بعد وقف إطلاق النار.
مع كل صباح جديد، يبدأ المسلسل المعاناة اليومي أمام النساء في قطاع غزة، ابتداء من تحضير طعام السحور في رمضان بلا إضاءة أو على ضوء الشمعة، أو بتحضيره على الحطب مع نفاد الغاز وهو الحال نفسه مع الإفطار، أو في تعبئة المياه وغسل الملابس حتى باتت أيديهن شاهدة على هذه المعاناة من شدة التعب والإرهاق، أو بتوفير الخبز، وتحمل العيش في خيمة أو على ركام المنازل.
ويمثل يوم المرأة العالمي الثامن من آذار فرصة لتسليط الضوء على مأساة نساء غزة، وواقعهن المر داخل خيام أو على أنقاض بيوت مدمرة، يعيشن أنصاف حياة.
رحلة نزوح
منذ بداية الحرب، تعرض منزل الحاجة أم محمد أبو علبة (60 سنة) والواقع في شمال قطاع غزة إلى التدمير، ومعه بدأت مبكرًا، رحلة نزوح وتشرد قاسية، وإلى اليوم لا زالت تعيشها بعد أكثر من ستة عشر شهرًا ذاقت كل ألوان المعاناة والتجويع.
بداخل مخيم إيواء غرب مدينة غزة، كانت أبو علبة تجمع الملابس من حبال الغسيل، وتساعدها ابنتها آلاء (23 سنة) ومن حولهن تجلس النساء أمام خيامهن، وتتجول الفتيات كأنهن يعشن في سجن، تتلاصق الخيام ببعضها بحيث يعشن واقعًا مؤلمًا في كل تفاصيله.
تحكي أبو علبة الأم لصحيفة "فلسطين" عن وجعها: "منذ بداية الحرب ونحن نعيش في تشرد وتنقل. رأينا الموت، ونزحنا تحت ضربات الأحزمة النارية. ربما يمكن تحمل كل ما شاهدناه من ألم رغم أنه لا يمحى من الذاكرة، لكن هدم البيت كان أصعب ما مررت به بعد هدم الذكريات، والأحلام، ما جعلنا نستمر بالتشرد بخيام الإيواء".
وأمام عدم وجود مقومات حياة أو مياه في منطقة سكنها في شمال القطاع، لجأت أبو علبة وأولادها نحو غرب مدينة غزة على أمل أن تعود مظاهر الحياة هناك بشكل أفضل.
تسمع تنهيدة قهر تتدفق من قلبها وهي ترثي حالها: "عمري الآن 60 سنة، مع كل صباح أشعر أني أعيش في قبر وليس في خيمة، فالحياة هنا ليست سهلة فلو أردت غسل كأس سيمتلئ بالرمل أثناء غسله. الطعام نطهوه على النار، كما لا يوجد مياه وكلها ننقلها بالجالونات".
ترسم تجاعيد المسنة، خيوطًا من الألم تروي قصة امرأة فلسطينية لا زالت تكابد الشقاء، تقف على باب خيمتها تنظر في الأفق المحيط حولها، وفي كل خيمة هناك قصة ومعاناة مختلفة، فقد الجميع منازلهم وتجمعوا هنا ليتشاركوا الهم، ويتعاونوا على التكيف مع ظروف وجدوا أنفسهم مرغمين على عيشها، يتسلحون بالصبر والإرادة لمواجهة المتاعب وتحمل الشقاء.
عن يوم المرأة العالمي، تقارب أبو علبة بين حياة النساء في العالم وما يعيشه نساء غزة، قائلة بنظرات يزدحم الحزن داخلها: "تعيش نساء العالم حياة تتوفر فيها كافة المقومات، من مياه ووقود، وبيوت، نحن الآن ننتظر ما يأتينا من طعام التكيات الخيرية لأنه لا يوجد دخل، كما أن لدي أربع بنات تخرجن من الجامعات وجلسن بالخيمة، أليس من حقهن العمل وإكمال مسيرة أحلامهن".
قتال لأجل الحلم
بقربها، تقف ابنتها آلاء وهي خريجة تعليم أساسي من الجامعة الإسلامية، قضت الحرب على أحلامها بأن تصبح معلمة، ورغم ذلك لا زالت تقاتل لأجل تحقيق حلمها، رغم مرارة الواقع التعليمي مع تحول المدارس إلى مراكز إيواء، إلا أنها تتمنى أن تعود العملية التعليمية ويكون لها سهم في المشاركة في معالجة آثار العدوان على الجوانب التعليمية.
أما أم خالد أحمد (53 سنة) فلم تفقد منزلها فقد، بل تضاعفت مأساتها بوفاة زوجها نتيجة استشراء مرض السرطان بجسده، وعدم سفره للعلاج بالخارج رغم وجود تحويلة علاج مستعجلة له.
ورغم كل ما حدث لها، تمارس هوايتها في التطريز للمحافظة على التراث الفلسطيني، وإبراز أصالة الشعب الفلسطيني وتجذره في أرضه وإقباله على الحياة وإكمال مسيرتها، وتجد في التطريز الذي تمارسه منذ 22 سنة مساحة للخروج من همومها وأوجاعها والسفر عبر السنين لتجسيد حكايا الأجداد في رسومات مطرزة على قطع قماشية، لتجد كل ما طرزته واقعًا تعيشه.
بداخل خيمتها الواقعة بمخيم إيواء بمدينة غزة، تعرض أحمد لوحة مطرزة مليئة بالرسوم، ويظهر فيها أفراد يزفون عريسا وهم يرتدون الحطة والعقال الفلسطيني والعباءة، وامرأة ترتدي ثوبا فلسطينيا وهي تقدم العصير ابتهاجا بالعرس، ونساء يجلسن على الأرض ويتناولن الطعام مع رب البيت، وفارس يقود خيلاً، وأشخاص يؤدون الدبكة الفلسطينية، كانت اللوحة هي الشيء المفرح الوحيد في واقع مؤلم.
وإن كانت متاعب النساء بدأت بعد الحرب، فإن رحلة معاناة أم خالد بدأت قبل الحرب بعشرة أشهر بعد إصابة زوجها جمال حسين أحمد بالسرطان، ومرافقتها له في كل جلسات العلاج الإشعاعي والكيماوي، الذي أدى بعد ذلك لإصابته بشلل نصفي.
سهرت على رعايته ونقله للمشفى وللنزوح جنوب قطاع غزة، وإجراءات مراجعة المستشفيات حتى توفي في 30 ديسمبر/ كانون أول 2024 مع عدم صدور تحويلة علاجية له، ليترك لها ستة أبناء بينهم خمسة متزوجون، واثنان ( شاب وفتاة) يعيشان معها.
"بعد فقد زوجي بشهر وأثناء عودتي من جنوب القطاع، وعيش حياة قاسية في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس، كنت على أمل أن أجد شقتي سليمة، لكن أصبت بصدمة عندما رأيت بيتي مدمرا، والآن أعيش في خيمة بحياة قاسية" تروي أم خالد لصحيفة "فلسطين" وهي تجلس داخل الخيمة وتعرض مشغولات المطرزات التي أنتجتها.
وضاعف غياب الزوج المسؤولية الملقاة عليها، تقلب دفتر المعاناة "الآن كل شيء أتحمله، مسؤولية الأبناء، الطعام، المياه. الحياة داخل خيمة بظروف صعبة حتى أني لا أجد جدار اسند ظهري إليه، كوني أعاني من الغضروف".
فقد ودور بطولي
وعملت النساء خلال الحرب بظروف صعبة، وأدت الممرضات والطبيبات دورا بطوليا في إسعاف المصابين، كانت ريم التلولي (24 سنة) إحداهن، بعدما عاشت حصارا صعبا بالمستشفى الإندونيسي لمدة ثلاثة أشهر خلال اجتياح جيش الاحتلال الثالث لشمال القطاع.
بأحداث لا تفارق ذاكرتها، تروي لصحيفة "فلسطين": "لحظة الحصار تعرضنا لتجويع شديد، وبعد نزوح الأهالي قسرا من الشمال نحو غرب غزة، بقيت مع طاقم تمريض مكون من خمسة أفراد، مع نحو ثلاثين مريضا، كنا نأكل المعلبات ونرشد في الاستخدام خوفا من نفادها، وفي نفس الوقت ورغم القصف المستمر بمحيط المشفى، كنا نقدم الخدمة للمصابين في أصعب الظروف حتى بدأ الدواء ينفد، وهنا بدأنا العمل على إجراء غيارات للجروح لعدم حدوث التهاب حتى لا نصل لمرحلة البتر".
خلال عملها، لا تنسى التلولي خروجها من المشفى لسحب جثامين شهداء بمساعدة الطاقم الطبي، بعدما كانت الكلاب تنهش أجساد الشهداء، وقاموا بدفنهم داخل المشفى، وفي محطة أخرى، تستذكر، كيف سهرت على تغيير جروح صعبة للمصابين، خاصة تلك السيدة التي امتلأ مكان جرحها بالديدان، ومع التنظيف المستمر وإجراء غيار ثلاث مرات يوميا التئم الجرح وتماثلت السيدة للشفاء.
وبنبرة فخر، تقول عن دافع عدم ترك المرضى: "بقيت على رأس عملي لأن أبي الشهيد أوصاني باستمرار تقديم الخدمة، كان المرضى يحتاجوننا، لأن معظمهم لا يستطيعون المشي أو بترت أطرافهم بالتالي كانت مسؤولية كبيرة على عاتقنا بالاستمرار معهم".
وإضافة لما قدمته من تضحية في عملها، فقدت أربعة أفراد من العائلة، فاستشهدت أختها أحلام (33 سنة) في 13 يناير/ كانون ثاني 2024 بقصف إسرائيلي قرب مفرق الغفري بشارع الجلاء بمدينة غزة، وشقيقتها مريم (25 سنة) في 15 مايو/ أيار 2024 أثناء محاولتها إسعاف شاب استهدف بأحد مدارس الإيواء بمخيم جباليا شمال القطاع، فيما استشهد والدها نافذ التلولي في 15 ديسمبر/ كانون أول 2023، ولا زالت تبحث مع عائلتها عن شقيقها المفقود نمر (27 سنة) منذ عام معتقدة أنه موجود بمعتقلات الاحتلال.