بينما كانت قدما المحرر طاهر عطوة تطأ أرض ساحة مستشفى غزة الأوروبي بخان يونس وهو يعانق الحرية، كانت دمعات زوجته "نور يحيى اسليم" تطير من عينيها وهي تغيب عن لحظة الاستقبال، لتكتفي بمشاهدة مراسم الإفراج من غرفة المشفى بمصر، لتحرم من فرحة استقبالٍ انتظرتها طيلة 14 سنة منذ أسر زوجها، لم يبرد نارها مكالمة مرئية جمعتهما معًا، في أول لحظات التحرر، والتي تكشفت خلالها ملامح جديدة ترزح تحت الآلام بفعل قسوة الأسر مختلفة عن صورته المطبوعة في ذاكرتها عنه.
بالمكالمة المرئية الأولى تعانقت نظرات الحسرة، المختلطة بمشاعر الفرح بعد الإفراج، لأول مرة يرى طاهر أولاده الذين لم يحظوا بأي فرصة لزيارته منذ عام 2013 وكانوا يشتاقون لاستقباله واحتضانه، بينما كانت آهات الشوق تتكدس في قلبه، وهو يسأل طفله الذي لم يره منذ ولادته: "أنت معاذ؟، - نعم" تغمره الفرحة: "كبران.. محمد صحتك كيف؟، بطلت تنزف؟".
ارتبطت نور (35 سنة) بطاهر (38 سنة) ولم يزد عمرها آنذاك عن 17 سنة والذي يكبرها بثلاث سنوات، في 6 نوفمبر/ تشرين ثاني 2007، واعتقل في 8 ديسمبر/ كانون أول 2011 وحكم بالسجن 17 سنة أمضى منها 14 سنة، ليترك لها طفلين صغيرين "محمد ومعتز"، وكانت تحمل طفلهما الثالث معاذ، لتخوض حياة قاسية مليئة بالتحديات والمصاعب.
حلم لم يتحقق بعد
كانت تحلم بلحظة الاستقبال وتعد الأيام والليالي والسنوات لها، فكل عام يمضي تقترب معه لحظة الإفراج، تقول بصوت يملأه الحزن لـ "فلسطين أون لاين": "كل زوجة أسير تحلم بلحظة الحرية، تزين البيت، الحارة، أن تكون في استقباله، تعانقه ويعانق اولاده، فكان حلمي أن تجمعنا صورة جماعية، وكانت تلك الصورة يمكن أن تتحقق لأني أتممت إجراءات إبعاده، لكن لشوق أمه له التي فقدت بصرها في انتظاره، آثرت أن يعود لغزة ليعانق أمه على أن يأتي لنا كون رحلة علاج ابني محمد لا زالت مستمرة".
تحلق مع مشاهد توقفت عند لحظة الحرية التي حرمة منها، تضيف: "كان يومها هناك موعد لجرعة كيماوي لابني محمد (15 سنة)، ولتزامنه مع موعد الإفراج عن والده، أرجأنا موعد الجرعة، وجلسنا نشاهد لحظة الحرية ونتابع الفيديوهات التي ينشرها المصورون، أول صورة وصلتني انهرت لتغير ملامحه".
تحملت نور دور الأب والأم مع غياب طاهر، واجتهدت في دراستها وتدريس أبنائهم الذين احتلوا المراتب الأولى في دراستهم وأتموا حفظ القرآن الكريم مع سرده كاملاً، "لم أضعف للأسر ولم أخضع للغياب، وبالتوازي مع تربيتي لهم كنت أعد نفسي ليكون لي مكانة بالمجتمع، كان جسد طاهر بعيدا لكن روحه موجودة، من بداية الأسر وعندما كان مدة الحكم بالبداية 40 سنة قبل أن ينخفض إلى 17 سنة، قلت له: "معك لآخر يوم بعمري" وأكملت تعليمي وجهزت منزلنا، كنت أقف مع العمال، وأذهب للمشفى مع ابني، وأعود لعملي بالفضائية ومكتب إعلام الأسرى" هذا جزء مما كابدته وعانته.
درست نور بكالوريوس تعليم أساسي، وماجستير إدارة تربوية، ومن خلال تجربتها تغلغلت في مجتمع الأسرى واستكشفته عن كثب، حتى بات الأسرى من أولويات حياتها تهتم بهم كاهتمامها بأطفالها، تعرف تفاصيل الحياة داخل السجون بدقةٍ، فتمكنت من إعداد أول رسالة ماجستير تتحدث عن التعليم الجامعي داخل السجون، وكشفت فيها وجود مجتمع تعليمي متكامل داخل السجون، بلجان ومدرسين وأكاديميين واختبارات.
مكنها تخصصها بمجال للأسرى، لتكون معدة برنامج "موعد مع الحرية" على فضائية ومرئية الأقصى، والذي كان يسلط الضوء على معاناة الأسرى داخل السجون، وينقل رسائلهم حصريًا لذويهم، ويشارك الأسرى أنفسهم في صياغة البرنامج، وكان نافذة للأسرى على العالم، في كل حلقة كانت تمتد لساعة كاملة تروي قصة عائلة أسير.
أما زوجها فتعرض خلال الأسر، لتحقيق قاس استمر عدة شهور، حرم من زيارة عائلته طيلة فترة الأسر، ولم ير طفله معاذ منذ ولادته، ولم ينحنِ للسجن، وتحلى بإرادة هزمت القيد، وحصل على دبلوم تأهيل دعاة، وبكالوريوس تاريخ، وماجستير في التربية والحضارة، ونشر عدة أبحاث حول دور اللجنة الثقافية في السجون في تعزيز الشخصية الإيجابية للأسير الفلسطيني.
رحلة علاج
سافرت نور بظروف صعبة خلال الحرب نتيجة حالة ابنها المرضية، وضع في العناية المكثفة بمصر لمدة شهر كان فيها بين الحياة والموت، ولا زالت الرحلة مستمرة لمعاناة طفلها من أمراض مزمنة، ونقص وتكسير بالصفائح الدموية، والتهابات بالدم وخلل بوظائف الكبد وهذا العلاج غير متوفر بقطاع غزة.
مثل مرض ابنها "محمد" أحد أهم التحديات بعد أسر زوجها، نتيجة صعوبة حالته، والتنقل بين مستشفيات مصر أو المستشفيات الفلسطينية التخصصية بغزة ورام الله، ومتابعة طفليها وقضايا الأسرى وعملها ودراستها، ساندتها أمها في ذلك وكانت داعمة ومساندة لها، وكذلك زوجها من خلف القضبان.
يطرق أبواب ذاكرتها، مشاهد من لحظات ضعفٍ ممزوجة بوجع وقهر "عندما كان يسقط ابني مني بالطريق لفقده الوعي نتيجة المرض، كانت لحظات صعبة لحاجتي، فكنت بحاجة لوالده، وعندما كبر أولادي وأثناء احتفالات التكريم، كان كل طالب يحضر والده معه، وكنت الأم الوحيدة في بعض الاحتفالات، وكانت هذه لحظات صعبة علينا".
يأتي رمضان الذي تمنت فيه "نور" أن تلتئم طاولة سفرتها ويشاركها زوجها في إعداد الطعام، والصلاة وتلاوة القرآن، بعد 14 سنة ظل مقعده فارغًا، تواسيها صورته المعلقة على جدران غرفة منزلها أو على جدار قلبها وفي تلابيب ذاكرتها، "صعب أن تحدث فرحة الإفراج التي طال انتظارها، وكل شخص فينا بمكان، ولا نلتئم، لا زلت أسأل نفسي: هل أنا في حلم، فلا زال الاتصال الهاتفي وسيلة الاتصال بيننا، حتى المكالمات المرئية صعبة بسبب صعوبة الوضع وضعف الانترنت بمدينة غزة".