سحورٌ وإفطارٌ مختلفان عن 21 رمضانًا مضى، فهذا العام له طعم آخر رغم الإبعاد، لكنه دون قيود السجّان وتنغيصه، ليتنفس الحرية أخيرًا، رغم خروجه إلى عالم تغيّر كثيرًا، بينما بقي هو صامدًا كما كان، يحمل في ذاكرته تفاصيل الأسر ومعركة الصمود في وجه المحتل.
فتى النضال
منتصر صالح أبو غليون، البالغ من العمر 50 عامًا، وُلد في مخيم جنين، وكبر وسط معاناة اللاجئين، فتعلّم مبكرًا أن الاحتلال لا يرحم.
ويعرّف نفسه قائلًا: "أنا ابن حيفا، المدينة التي هُجّرنا منها قسرًا، حيث قام الاحتلال بتهجيرنا وطردنا من بيوتنا، وأخذ الصهاينة أرضنا. كنت أرى منزلنا وأحزن".
في انتفاضة الأقصى عام 2000، كان من الشبان الذين لم يترددوا في مواجهة قوات الاحتلال، لكن المحطة الأبرز في مسيرته كانت عام 2002، حين شارك في معركة مخيم جنين، التي تحوّلت إلى رمز للصمود الفلسطيني.
السجن لم يكسر العزيمة
في 18 فبراير 2004، اعتقلت قوات الاحتلال منتصر بعد مطاردة استمرت لفترة، وأصدرت بحقه حكمًا قاسيًا بالسجن المؤبد خمس مرات، إضافة إلى 20 عامًا أخرى، في محاولة لإخماد نضاله.
ورغم السنوات الطويلة في الزنازين، لم ينكسر، بل ظل متمسكًا بقضيته، يقاوم من خلف القضبان، ويحافظ على صلابته حتى لحظة الإفراج عنه.
يقول أبو غليون لصحيفة "فلسطين": "كنا أمواتًا أحياء داخل السجون الإسرائيلية، ويوم تحريرنا كان ميلادًا جديدًا. فقد كنا في ظلام دامس، لكننا صمدنا كل هذه السنوات إيمانًا بقضيتنا وأملًا في الوطن"، يصمت قليلًا، ثم يتابع: "أعلم أن هذه كلمات تحمل في طياتها مرارة التجربة، وعمق الألم الذي تجرعته أنا ورفاقي".
عذابات الأسر
في زنازين الاحتلال، لم يكن التعذيب مجرد وسيلة، بل كان نهجًا ممنهجًا. يقول أبو غليون: "هؤلاء الصهاينة أذاقونا العذاب بكل أنواعه. يتهمون النازية بالقسوة، لكنهم كانوا أكثر نازية من النازيين أنفسهم. استخدموا أقسى أشكال التعذيب، حتى الطعام كان يُوزّع علينا بالجرامات. أصبنا بالأمراض، ومارسوا علينا العنف الوحشي. حتى اليوم، ما زالت يدي وصدري يؤلمانني من شدة الضرب، حيث كانوا يتعمدون استهداف الأماكن المصابة".
لم يكن الألم جسديًا فحسب، بل تعداه إلى النفس والروح. يضيف: "كان التنكيل فاضحًا، إذ كان السجّان يرش الغاز داخل الزنازين، ويضربنا بوحشية، حتى إنهم كانوا يتعمدون كسر عظامنا".
وفي إحدى الليالي الحالكة، اقتحم جنود الاحتلال زنزانته وألقوا قنابل الغاز. يقول: "أُصبت ونزفت لثلاثة أيام متواصلة داخل الزنزانة، دون أن يقدموا لي أي علاج. كنت أعاني من فتاق في البطن، لكنهم رفضوا منحي الدواء، بل مارسوا كل أشكال التعذيب النفسي والجسدي. وإن أعطوني الدواء، فكان فقط لإبقائي بين الموت والحياة، فكل شبر في جسدي متعب ويشكو وجعًا".
ويشير أبو غليون إلى أنه لم يكن وحده في هذا الجحيم، فقد كان زملاؤه في السجن يعانون من أمراض خطيرة، بينما كان الاحتلال يمنع عنهم العلاج تمامًا. يقول: "تركونا للموت، قبل أن ينقذني التحرير".
داخل السجون، لم يكن الاحتلال يكتفي بحرمان الأسرى من حريتهم، بل مارس سياسة القهر النفسي أيضًا. وخلال سنوات اعتقاله، فقد أبو غليون والده الذي كان ينتظر لحظة تحرره، لكنه رحل قبل أن يشهدها، لتُضاف غُصة جديدة إلى سنوات الأسر الطويلة.
ورغم إبعاده إلى جمهورية مصر العربية، إلا أن روحه لا تزال تحمل آثار السجن وسنوات الغياب، كما يبقى الحنين إلى وطنه، وبالأخص مخيم جنين، حاضرًا في قلبه وذاكرته.