في أول ليلة من ليالي شهر رمضان العام الماضي، كان منزل عائلة أبو شمالة في حي الزيتون جنوب مدينة غزة يشع بالحياة والأمل، رغم القصف الكثيف الذي كان يعصف بالمنطقة، والخوف الذي بدأ ينتشر في أرجاء المدينة، كان الجميع في حالة استعداد لاستقبال الشهر الفضيل، يتأهبون لصلاتي العشاء والتراويح، والتحضير للسحور.
الليلة كانت مميزة بالنسبة لرب العائلة، مفيد أبو شمالة، الذي كان يتطلع إلى تلك اللحظة السنوية التي يجتمع فيها مع أسرته الكبيرة، وكان النقاش يدور في تلك الليلة حول من سيؤمهم في صلاة التراويح، هل سيكون الابن الأكبر أحمد، أم الأصغر سنًا أنس، أم الوالد نفسه؟ وقد وقع الاختيار على أحمد، لحفظه القرآن الكريم كاملًا، ولجمال صوته وإتقانه لأحكام التجويد، وحصوله على شهادة في تأهيل السند.
أما أنس، الابن الأصغر في العائلة، فاقترح أن يختموا القرآن الكريم كاملًا خلال صلاتي العشاء والتراويح طوال شهر رمضان، فرحب الجميع بالفكرة، وبدأ أحمد الصلاة والتلاوة بصوته العذب، ولم يكن أحد يدرك أن تلك كانت آخر صلاة لهذه العائلة في ذلك المنزل.
بعد انتهاء الصلاة، همت أم أحمد وابنتها رغد إلى المطبخ لإعداد بعض حلوى الخبز التي تحتوي على السكر، وكانت العائلة متحمسة للاستمتاع بها، لكن أنس، الذي كان يعرف كيف يضيف لمسة خاصة لكل شيء، قرر أن يضيف بعض الكريمة التي كان يحتفظ بها، رغم أنها كانت قد انتهت صلاحيتها منذ مدة، وعلى الرغم من تردد الأبناء من تناولها بسبب تاريخ انتهاء الصلاحية، بدأ الأب مفيد بتذوقها ليتشجع بعدها الأبناء في تذوقها.
قضت العائلة أوقاتًا سعيدة في تلك اللحظات الرمضانية الأولى، مستمتعين بالأجواء العائلية، ثم ذهبوا إلى النوم سعداء بعد أداء صلاتي العشاء والتراويح واللعب مع حفيدهم الصغير جواد، الذي كان يشعرهم بسعادة غامرة، لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن في الحسبان.
في الغرفة المجاورة، تذكر إسلام، أحد أبناء عائلة أبو شمالة، تلك اللحظات المفجعة، عندما سمع فجأة صوت صفير طائرات الاحتلال الإسرائيلي في خضم حرب الإبادة الجماعية، تلاه ضجيج هائل وتساقط الركام على رأسه، ثم ساد الظلام الدامس، ولم يعرف إسلام ماذا حدث.
فجأة، وجد أنس نفسه عالقًا بين أعمدة الخرسانة التي تحطمت بسبب الصاروخ الذي دمر بنايتهم السكنية التي كانت تضم ست عائلات من أعمامه وأقاربه.
في تلك اللحظات، شعر إسلام بفقدان الحركة في يده اليسرى، وكانت حركته محدودة بسبب الركام والأعمدة التي كانت تثقله، وبدأ يفكر في مصير والده ووالدته وأشقائه: هل نجوا؟ هل استشهدوا؟ نادي بصوت عالٍ: "أنس.. أنس.. رغد.. رغد.."، ولكن لم يسمع أي إجابة، فبدأ يتأكد من أن هذا القصف كان من طائرات الاحتلال الإسرائيلي.
تحت الركام، تذكر إسلام دعاء سيدنا يونس عندما ابتلعه الحوت، حيث لم يكن لديه مخرج من تلك الظلمات التي تجمعت عليه، فأخذ يردد الدعاء: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، ثم تلا الشهادتين.
بقي إسلام عالقًا تحت الأنقاض لأكثر من ساعتين حتى وصل رجال الإنقاذ الذين كانوا يبحثون بين الركام عن أي أحياء، وهنا ناد بصوتِ عالِ، ولم يتمكن من أن يسمعه أحد، لكنه عاد ونادى مجددًا بصوت أعلى.
هنا، كان الحظ حليفه، حيث سمعه أحد رجال الدفاع المدني، فبدأ في إزالة الركام عن طريق نبش الحجارة بيديه وبعض الأدوات البدائية حتى تمكنوا من إخراجه، وهو مصاب.
خرج إسلام ووالده مفيد من الشقة أحياء، لكن الحزن كان يعصر قلبهم عندما اكتشفوا أن الأم وزوجها أحمد وحفيده جواد، وابنتهم رغد، وكذلك أنس وأبناء عمه في الشقة المجاورة قد استشهدوا في القصف. كان منهم أحمد عبد الفتاح وزوجته نور وابنه عبد الفتاح، إضافة إلى ابنتيه وامال وفاطمة التي لم تتجاوز السنة من عمرها، والجدة أمل عبد الفتاح، إضافة إلى آخرين من الجيران، ليصل العدد إلى 14 شهيدًا.
كانت تلك الليلة هي ليلة رمضان الأولى التي لن تنساها عائلة أبو شمالة، ليلة كانت مليئة بالفرح، ولكنها انتهت بجريمة ارتكبها الاحتلال ضد مدنيين كانوا يتأهبون لاستقبال شهر الصيام.