أسفل بقايا سقف مدرسة إيواء للنازحين تعرضت للتدمير بمدينة غزة، تعيش سمية غريري التي أنشأت خيمة من قطع قماشية وضعتها أسفل السقف المدمر والمائل، كأنها تسكن في "كهف" مظلم، لم يمنح النهار المكان ضوءًا كافيًا للإنارة التي لا تجدها في الليل إلا من شمعة تحاول خلالها الإضاءة لإعداد طعام "السحور"، وعلى مدخل الخيمة علقت حبل زينة ابتهاجًا بحلول شهر رمضان، تستقبل الشهر بوضع مأساوي وظروف صعبة يعيشها النازحون في مراكز الإيواء.
الثالثة فجرًا، استيقظت غريري وأوقدت شمعة كي تمنحها الرؤية في ظل انعدام الطاقة البديلة داخل خيمتها أو في المخيم ذاته، مع نفاد بطارية هاتفها، وأعدت طعام السحور وهي تراقب سقوط الشمعة أو انطفائها بفعل التيارات الهوائية الباردة التي تنفد لداخل الخيمة من جهتين مكشوفتين تحيطان بالخيمة بفعل الدمار.
وتفرض الظروف الصعبة نفسها على محاولة النازحين في مراكز الإيواء استقبال شهر رمضان بأجواء روحانية يؤدون فيها العبادة ويقبلون على شهر الخيرات، فتلك الظروف تنغص فرحة استقبال رمضان، مع شح المياه وقلة الطعام وانعدام الكهرباء مع البرد القارس مع سلسلة منخفضات جوية تأثر بها قطاع غزة خلال الفترة الأخيرة.
ففي هذا المركز المقام على أنقاض مدرستي "البراق والأقصى" غرب مدينة غزة، لا يوجد مصلى يؤدي فيه النازحون صلاة الجماعة، كما يعاني المكان من شح في المياه، فضلا عن عدم امتلاك البعض لأسطوانات غاز، ومعاناتهم من الإنارة في ساعات الليل فيتحول لمكان معتم.
شمعة للإنارة
"لا يوجد إضاءة، وهذه معاناة كبيرة نعيشها في الخيام، قمت بإعداد طعام السحور بإيقاد شمعة وطوال الوقت أكون حذرة وأراقبها خوفا من التسبب بحريق بسقوطها على الملابس والأغطية، وسعر كل شمعة يبلغ 5 شواقل" تقف بداخل خيمتها وهي تحمل بقايا الشمعة التي اوقدتها فجر السبت في أول أيام رمضان، وتحكي لصحيفة "فلسطين" جانبًا مما عانته، بينما يسكن الوجع في نبرات صوتها.
ورغم أجواء المطر المصحوبة بتيارات هوائية باردة بفعل منخفض جوي، يصاحبه سقوط زخات من المطر، تقول غريري التي لا ترتدي هي وأطفالها ملابس كافية للدفء: "تعودنا على البرد، كوني نازحة في جنوب القطاع لمدة خمسة عشر شهرا، وعشنا في أجواء باردة وصعبة، وعدنا لشمال القطاع لنستكمل حياة الخيام، لكن الصعب هو الحياة وسط ظلام دامس وصعب".
بينما تمسك بقايا الشمعة التي أوقدتها، تتنهد وهي تحتار كيف ستجلب شمعة أخرى، وتردف "الآن أسعى لتوفير شمعة جديدة، لطعام الإفطار والسحور".
وحاولت غريري السكن بجانب ركام منزلها الواقع بمخيم جباليا شمال القطاع، لكن حاجة المكان للتهيئة من قبل معدات ثقيلة وجرافات لجعل الأرض مستوية مع إزالة الركام والحجارة والأحزمة المدمرة والتي تملأ المكان، حال دون تمكنها من العودة، كما أن مراكز الإيواء بمحافظة الشمال تمتلئ بالنازحين الذين لم يغادروا لجنوب القطاع.
بهذا الواقع الصعب لم تجد غريري سوى زاوية مدمرة بممر مدرسي يظللها سقف مائل من الجهة الغربية للعيش فيه، تنكشف واجهة حجارتها من الجهة الشمالية، ويزداد المكان وحشة مع ساعات الليل مع افتراش الظلام الدامس للمنطقة، واقتراب الكلاب الضالة في ظل وجود جثامين شهداء لم يتم انتشالهم تحت ركام المدرسة.
من وسط الواقع المأساوي، تسحبها ذاكرتها للأجواء التي كانت تعيشها في الأعوام السابقة، فتستذكر بحسرة ترافق صوتها وهي ترسم خطا على ملامحها المليئة بنظرات حزن: "اعتدنا على شراء السجاد الجديد، وتزيين البيت بحبال الزينة المضيئة، كنا فعلا نستقبل رمضان بكل فرح وسرور، لأن كل شيء لإحياء الشهر الفضيل متوفر، أما الآن فكل شيء تعيشه بمعاناة كبيرة.
من أعلى مركز الإيواء، يراقب سرحان أبو نادي أطفالاً يلهون بساحة المخيم، أحدهم يلعب بدراجته الهوائية، وطفلة تلحق والدها وهي تحمل بالونًا أصفرًا، وجاره الذي يشعل النار ويجد صعوبة في ذلك، بينما تنشغل إحدى النساء بغسل الملابس ونشرها بأجواء باردة.
بنظرة ترحل إلى حال المكان ليلاً، يرسم أبو نادي لصحيفة "فلسطين" شكلا مختلفًا للحياة هنا قائلاً: "مع ساعات المساء، يصبح المكان معتمًا، والصغار يدخلون إلى خيامهم بسبب العتمة أو البرد، بالتالي لم يختلف اليوم الأول هنا في رمضان عن أي يوم آخر سوى أننا نقبل على إحياء الشهر بالصوم والصلاة بقلوب صابرة محتسبة أجرها لله، فكلنا فقدنا بيوتنا".
يضيف وهو يشرح مزيدًا من المعاناة التي تقسو على كاهل الأهالي "لدينا بطارية ومع كثرة استخدامها أصبحت لا تنير الساحة سوى مدة ساعة".
نظرات الحسرة التي امتلأت بها عينا الغريري، رسمتها ملامح أبو نادي وهو يطل من ذاكراته على أجواء اعتاد عليها على قضاء رمضان، بينما يقف على بقايا الطابق الثالث من المدرسة المدمرة، "كنا نهيئ أنفسنا لاستقبال رمضان قبل أسبوع من قدومه، نزين البيوت، وتضاء الحارات، وتشعر بالأمن والفرح والطمأنينة في المكان الذي نشأت وترعرعت فيه".
حبال زينة
ولكي يضفي أجواء من الفرح على قلوب أطفاله، علق أبو نادي كسابقته حبالاً من الزينة باب خيمته، وباتت هذه الحبال هي الشيء الوحيد المختلف لدى الأطفال بين أيام رمضان والأيام العادية، فيرى أن النازحين يستكملون صومهم عن الطعام، وسط معاناة كبيرة في توفير الطعام، كما أن المقدم من الجمعيات الخيرية في معظمه وجبات اعتاد النازحون عليها كالمعكرونة والأرز أو العدس والمجدرة، متهكما بمرارة "صارت زي الروتين اليومي".
وقبل انشغال أبو نادي وباقي النازحين في المخيم، ببرنامجهم اليومي لليوم الأول من رمضان، كان يقوم بمساعدة الجيران الذين غمرت مياه المطر خيامهم من الأسفل على رفع الملابس لأماكن مرتفعة، في وقتٍ تحولت الساحة إلى بركة مياه وأصبحت الخيام كجزر عائمة في وسطها، ويعلق بمرارة "مع سقوط المطر تصبح الخيمة أشبه بمظلة تقيك من المطر، وكأنك تسبح ببحر، والمأساة عندما تزداد المياه وتتدفق للداخل".
ويبعث وجود عشرات الشهداء تحت ركام إحدى جهات المدرسة شعورًا صعبًا يسيطر على قلوب الأطفال، وحياة النازحين داخل المدرسة، مشيرا، إلى أن هؤلاء الشهداء هم نازحون جرى قصفهم بالمدرسة، ونزحت عائلاتهم جنوب القطاع، وبفعل الركام الكبير لم يتم انتشالهم بعد للحاجة إلى معدات ثقيلة لرفع الركام.
بينما كانت بعض الجارات يتبادلن الحديث عن وجبة الإفطار التي سيعدنها في أول يوم رمضان، كانت أُنْس البلبيسي تحاول رفع الأغطية مع استمرار سقوط المطر، خوفًا من تكرار تجربة غرق خيمتها خلال المنخفض الجوي الأسبوع الماضي.
أثناء محاولة البلبيسي إعداد طعام السحور الساعة الثانية والنصف فجرًا، استغرقت قرابة نصف ساعة حتى تمكنت من إشعال النار، بعد محاولات عديدة أفسدتها الرياح القوية التي أطفأت نيران الموقد.
على بعد عدة أمتار من خيمتها، تضع البلبيسي موقدًا وبعض الأواني والمياه بلا أي سقف أو شادر يحميها من المطر، وهذا هو مطبخها الحالي، الذي تعد فيه وجبات السحور والإفطار لزوجها وأطفالها، وهو حال يعيشه جيرانها في المخيم وفي معظم مراكز الإيواء.
"كانت الأجواء باردة جدًا، تساقط المطر علي أثناء إعداد وجبة السحور، وفي رمضان الماضي لم نكن نتناول السحور بسبب متاعب إشعال النار، رغم أني كنت أسكن في بيت لجيراننا بشمال القطاع، وكان وضعه أفضل من الخيمة لكنه تعرض للتدمير وخرجنا من البيت بلا شيء أو إمكانيات" تروي لصحيفة "فلسطين".
بلا اسطوانة غاز لتتمكن من إعداد الطعام، ستمضي البلبيسي رمضانها بواقع تعيشه بنفسها، يغلف الصبر صوتها: "الحمد لله، رمضان شهر طاعات، ونحن نقبل عليه ونؤدي العبادات، لكن الواقع صعب، أطفالي يرجفون من البرد داخل الخيمة".
بينما تشير لداخل خيمتها يظهر عدة فرشات وبعض الأغطية الشتوية، وبعض المعلبات، تعود لما حدث معها الأسبوع الماضي، موضحةً: "استيقظنا من النوم ووجدنا ظهورنا تمتلئ بالمياه، بسبب غمر المياه الخيمة من الأسفل".