في خيمة شبه مظلمة في منطقة مصبح في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، يجلس الفتى كريم النجار (15 عاما)، محاولا تذكر تفاصيل يومه السابق، لكنه يفشل في ذلك. كلما حاول استرجاع الأحداث، يجد نفسه محاصرا بالفراغ، وكأن ذاكرته بدأت تتلاشى ببطء.
أصيب النجار بشظية استقرت في رأسه خلال قصف إسرائيلي في نوفمبر 2024. لم تكن الإصابة قاتلة في لحظتها، لكنها بدأت تؤثر على وظائف دماغه تدريجيا. أخبره الأطباء أن بقاء الشظية في رأسه سيؤدي إلى فقدان ذاكرته بالكامل، لكن في قطاع غزة، لا توجد الإمكانيات اللازمة لإجراء جراحة دقيقة لإنقاذه.
"كل يوم أفقد جزء من ذكرياتي.. أخشى أن يأتي يوم لا أتعرف فيه على أمي وأبي"، يقول النجار بصوت متقطع لصحيفة "فلسطين"، بينما تحاول والدته السيطرة على دموعها.
حصل على تحويلة طبية للعلاج في الخارج، لكن اسمه لا يزال عالقا بين مئات المرضى المنتظرين في قوائم السفر عبر معبر رفح، حيث تتحكم (إسرائيل) في حركة المرضى وتقرر من ينجو ومن يبقى في دائرة الخطر.
"الأطباء أكدوا لنا أن التأخير يعني فقدانه للذاكرة تماما"، تقول والدته، بينما تمسك بيده كأنها تحاول أن تمنحه شيئا من الأمان وسط هذه الفوضى. "لكن ماذا نفعل؟ المستشفيات هنا عاجزة، وكل ما يمكنهم فعله هو إعطاؤه مهدئات لا توقف تدهور حالته".
المرض في مواجهة الدمار
في حي الرمال وسط مدينة غزة، ترقد الطفلة حنين السوسي (13 عاما) على سرير متهالك وسط منزلها المدمر جزئيا. منذ أكثر من شهرين، تصارع حنين مضاعفات مرض التليف الكبدي، بينما تصارع عائلتها إجراءات السفر التي لم تتحقق بعد.
تقول والدتها بحسرة لصحيفة "فلسطين": "بيتنا لم يعد يصلح للحياة، نعيش وسط الركام، ومع ذلك، هذا ليس أسوأ ما نواجهه.. ابنتي بحاجة إلى علاج عاجل، لكن لا يوجد أي مستشفى هنا قادر على مساعدتها. نخشى أن نستيقظ يوما ونجدها رحلت قبل أن نصل إلى المعبر".
رغم أن اسم حنين مدرج ضمن قوائم المرضى المقرر إجلاؤهم للعلاج، إلا أن قيود الاحتلال منعتها من السفر. "كل يوم أسمع عن مرضى خرجوا، وأتساءل متى سيحين دورها؟ جسدها ينهار، والوقت ليس في صالحها"، تضيف الأم بينما تنظر إلى وجه ابنتها الشاحب.
حنين تعاني من تراكم السوائل في بطنها بسبب فشل الكبد، وتحتاج إلى عمليات تصريف دورية لم تعد ممكنة في غزة. ورغم كل ذلك، لا تزال تحلم بالخروج إلى مستشفى آمن حيث يمكنها العودة للحياة، بعيدا عن أصوات الانفجارات التي صارت جزءا من يومياتها.
عرقلة متعمدة
بينما يعاني مئات المرضى في غزة من إجراءات الاحتلال، تكشف الأرقام عن حجم الكارثة. منذ سريان اتفاق وقف إطلاق العدوان على غزة في 19 يناير الماضي، لم يسمح سوى لـ600 مريض بالمغادرة عبر معبر رفح، رغم وجود أكثر من 25 ألف حالة بحاجة ماسة للعلاج.
يقول إسماعيل الثوابتة، المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، لصحيفة "فلسطين" إن (إسرائيل) تتعمد عرقلة سفر المرضى الفلسطينيين عبر معبر رفح، رغم خطورة أوضاعهم الصحية.
ويضيف الثوابتة "نواجه سياسة ممنهجة تهدف إلى قتل المرضى ببطء. الاحتلال يسمح فقط بسفر أربعين إلى خمسين مريضا يوميا، رغم أن اتفاق وقف إطلاق النار ينص على أن يتم السماح بسفر 150 حالة مرضية يوميا من غزة".
ويتابع "(إسرائيل) تتحكم في الأسماء، تمنح الموافقة لمن تشاء، وتمنع من تشاء، حتى لو كان على وشك الموت. هذا ليس مجرد تأخير، هذه جريمة متعمدة بحق المرضى".
ويؤكد الثوابتة أن هناك أطفالا ونساء فارقوا الحياة قبل أن يأتي دورهم في قوائم السفر، بينما يواصل الاحتلال المماطلة في منح التصاريح. "كل تأخير يعني مزيدا من الضحايا.. نحن لا نتحدث عن أرقام، بل عن أرواح تحتجز تحت رحمة قرارات تعسفية".
تدمير المنظومة الصحية
من جهته، أكد الوكيل المساعد لوزارة الصحة في قطاع غزة، د. عبد اللطيف الحاج لـ"فلسطين"، أن المنظومة الصحية في غزة تعرضت لتدمير ممنهج خلال الحرب، مما أدى إلى فقدان أكثر من 70% من القدرة السريرية للمستشفيات نتيجة القصف الإسرائيلي الذي استهدفها وأخرجها عن الخدمة.
وأشار الحاج إلى أن هذا التدمير الشامل للمنشآت الصحية أدى إلى حاجة جرحى غزة لنحو 500 ألف عملية جراحية مؤجلة بسبب النقص الحاد في المستلزمات الطبية والأدوية الأساسية.
وأضاف أن جيش الاحتلال استهدف الكوادر الطبية بشكل مباشر، مما أسفر عن استشهاد أكثر من 1000 طبيب وممرض منذ بداية حرب الإبادة في 7 أكتوبر 2023، بالإضافة إلى تدمير عشرات المستشفيات والمراكز الطبية.
وأكد الحاج أن هذا الاستهداف الممنهج للمنظومة الصحية يفاقم معاناة المرضى ويحول دون تقديم الرعاية الطبية اللازمة، داعيًا المجتمع الدولي إلى التدخل العاجل لوقف هذه الانتهاكات وتقديم الدعم اللازم لإعادة بناء القطاع الصحي في غزة.