لم يكن الإفراج عن الأسير عبد الرحمن مقداد مجرد خروج من الزنزانة، بل كان انتصارًا جديدًا على الاحتلال الذي ظن أنه قادر على كسر إرادة المقاومين عبر الأحكام المؤبدة وسياسات القمع داخل السجون.
بعد 21 سنة من الأسر، أُفرج عنه بالقوة ضمن صفقة "طوفان الأحرار"، ليعود إلى شعبه، لكن بفرحة منقوصة، فقد ترك خلفه أوجاع الفقد وألم الغربة عن عائلته.
وُلد عبد الرحمن مقداد، المعروف باسم "زاهر"، عام 1976 في ليبيا، لعائلة فلسطينية بسيطة حملت معها مرارة اللجوء. وعندما تزوج عام 2001، لم يكن يعلم أن ابنه احمد سيكبر بعيدًا عنه، إذ اعتُقل بعد أشهر قليلة فقط من ولادته، ليقضي عمره بين جدران الزنازين، بينما يكبر ابنه بعيدًا عن أحضانه.
خلال انتفاضة الأقصى، كان مقداد مقاتلًا في صفوف كتائب شهداء الأقصى، وشارك في عمليات عسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي، قبل أن يُحاصر مع رفاقه داخل كنيسة المهد في بيت لحم عام 2002.
وبعد اعتقاله عام 2004، صدر بحقه حكم جائر بالسجن لـ 21 مؤبدًا و15 عامًا، لكنه لم يستسلم للقيود، وظل مؤمنًا بأن الحرية قادمة لا محالة.
لم يكن الأسر مجرد احتجاز جسدي، بل كان محاولة إسرائيلية لطمس الهوية الفلسطينية وكسر إرادة الأسرى. عاش مقداد محطات قاسية، كان أقساها تلقيه خبر وفاة والدته وإخوانه الثلاثة، دون أن يتمكن من إلقاء نظرة الوداع عليهم.
كما كانت المناسبات السعيدة التي حُرم منها داخل السجن بمثابة سكاكين تنهش روحه، خاصة حين تفاجأ بزواج طفله الذي تركه رضيعًا، ليكتشف أنه أصبح شابًا في غيابه.
لكن، وسط القهر، كان الأسرى يسندون بعضهم بعضًا، يقفون إلى جانب من يحزن، ويحتفلون بأي فرحة صغيرة بينهم، يحاولون التأقلم مع واقع الأسر المرير. استغل مقداد سنوات اعتقاله ليحصل على شهادة البكالوريوس في التاريخ، ثم الماجستير في العلاقات الدولية، إضافة إلى دورات عديدة في اللغات، مؤكدًا أن العلم كان سلاحه في مواجهة السجان.
عندما نفذت المقاومة عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، تابعها مقداد مع رفاقه الأسرى بفخر واعتزاز، واستبشر بأن موعد الحرية قد اقترب. لكن الاحتلال، بقيادة وزير ما يسمى "الأمن القومي" في حكومة المستوطنين إيتمار بن غفير، صبّ جام غضبه على الأسرى، ليحوّل حياتهم إلى جحيم من التجويع والتنكيل على مدار الساعة.
يقول مقداد لـ "فلسطين أون لاين" إن الاحتلال فرض عليهم نظامًا غذائيًا يبقيهم بالكاد على قيد الحياة، ومنع الطعام والماء الساخن ومواد التنظيف، مما أدى إلى تفشي الأمراض. كان مرض الجرب ينتشر بين الأسرى كالنار في الهشيم، ولم يكن هناك علاج، حيث أصيب مقداد لأربعة أشهر، عانى خلالها من الألم وعدم القدرة على النوم.
أما القمع، فكان مشهدًا يوميًا، حيث كانت قوات الاحتلال تقتحم الزنازين بالسلاح وتبحث عن أي ذريعة للبطش بالأسرى. يتذكر عبد الرحمن لحظة اقتحام سجن نفحة، عندما قال أحد الضباط للمعتقلين وهو شاهر سلاحه: "هل من حركة منكم سبب لأطلق النار على أحدكم؟".
الحرية المنتزعة وفرحة منقوصة
بعد 21 عامًا، جاءت لحظة الإفراج، لكنها لم تخلُ من محاولات الاحتلال للتنغيص عليه حتى النهاية. فقد تم نقله بين عدة سجون لإرباكه، وأبلغوه كذبًا أنه سيتم إبعاده، بينما أبلغوا زوجته في بيت لحم أنه سيخرج إلى الضفة، ما جعلها تتجه إلى رام الله لاستقباله، في حين ذهب عدد قليل من أقاربه إلى مستشفى غزة الأوروبي، غير متأكدين من المكان الذي سيظهر فيه.
يقول مقداد: "حاولوا بكل الطرق سلب فرحتنا، لكن رغم ذلك، خرجنا أعزاء، مرفوعي الرأس". ورغم الإفراج، فإن فرحته منقوصة، صحيح أنه خرج إلى غزة حيث بيت أخيه لكنه لم يستطع الاجتماع بزوجته وولده في بيت لحم، لكنه يأمل أن يتحقق ذلك قريبًا.
وفي لحظة خروجه، لاحظ كيف تغير سلوك جنود الاحتلال في وجود وفد الصليب الأحمر، إذ حاولوا إظهار معاملة إنسانية زائفة، تخفي وحشيتهم الحقيقية داخل السجون.
رسالة وفاء للمقاومة وغزة
يختم مقداد رسالته لشعبه، قائلاً: "لا كلمات تكفي لشكر من كان سببًا في إطلاق سراحنا. شكرًا للمقاومة، وشكرًا لغزة التي صمدت في وجه الإبادة الجماعية. نحن مدينون لهذا الشعب العظيم".
ويأمل المحرر مقداد أن تبدأ عملية إعادة إعمار غزة، وأن تعود الحياة إلى طبيعتها، مؤكدًا أن المقاومة ستبقى نهجًا وفكرًا لا يمكن التخلي عنه، وأن معركة التحرير مستمرة حتى زوال الاحتلال.