بعد أن وصله نبأ استشهاد عدد من أقاربه وأفراد عائلته خلال حرب الإبادة التي شنها الاحتلال على قطاع غزة، لاحظ الأسيران نائل البرغوثي ومحمد عرمان أن الوقت قد حان لإخبار رفيقهما في الأسر، يوسف المبحوح (33 عامًا)، بأشد الأخبار قسوة عليه. كانا يمرران إليه نظرات تحمل في طياتها الحزن العميق أثناء مرورهم إلى "الفورة" بحكم وجودهم في العزل الانفرادي.
من بعيد، بدأ البرغوثي، المكنى "أبو النور"، بالتمهيد قائلًا: "نعرفك جبلًا، وصامدًا، ولا نريدك أن تنهار، حتى لا تشعر إدارة السجن أنها كسرتك." لكن المبحوح، المعروف بصلابته، لم يتمالك نفسه وسأل بقلق: "مَن استُشهد؟!"
كان على موعد مع تلقي أصعب خبر في حياته: استشهاد طفلته رانيا (9 سنوات)، التي كانت تنتظر حريته وتعبر له عن شوقها عبر أثير الإذاعات. كانت أمنيته الوحيدة أن يحتضنها، لكنه تلقى خبر استشهادها بعد شهرين، فكان كالصاعقة على قلبه.
الحرية على أنقاض الوجع
اعتُقل المبحوح في 15 فبراير/شباط 2018، وصدر بحقه حكم بالسجن 25 عامًا، أمضى منها سبع سنوات قبل أن تحرره المقاومة ضمن صفقات التبادل الجارية في 8 فبراير/شباط 2025. وخلال أسره، نفّذ عملية طعن ضد سجان إسرائيلي عام 2021 انتقامًا لاعتداء الاحتلال على الأسيرات الفلسطينيات، كما قام بضرب سجان آخر.
لم يكن المبحوح من الأسرى الذين وجدوا عائلاتهم كاملة بانتظارهم عند التحرير، فقد ودّع وهو في الأسر 130 شهيدًا من عائلته، بينهم 23 شهيدًا من الدرجة الأولى، ومنهم طفلته رانيا، وشقيقاه، وجداه، وأعمامه، وأخواله، وأبناء عمومته، بل إن عائلة زوجته قُتلت بالكامل. لم يجد حتى جثمان طفلته، إذ بقي معظم الشهداء تحت الركام. وحين تحرر، رفض استقبال المهنئين إلا بعد انتشال الشهداء من تحت الأنقاض، وشارك بنفسه في عملية إخراجهم.
ورغم الفقد الذي كاد أن يكسر صلابته، كان في انتظاره ابنه الوحيد طلعت (9 سنوات)، الذي ضمّه بعناق طويل مملوء بالشوق، كما نجت زوجته من القصف المتكرر، ونجا والديه وبعض أشقائه.
"لم أجد الدنيا كما تركتها"
بصوت اختلط فيه الفرح بالحزن، يقول المبحوح لصحيفة "فلسطين" "كان الواقع مؤلمًا، لم أرَ طفلتي ولو لمرة واحدة، كان حلمي أن أضمها إلى حضني. بكيت ليالي طويلة، فحزننا على الأطفال كبير؛ لأنهم لا ذنب لهم، وقتلهم هو قتل للبراءة والإنسانية. إضافةً إلى استشهاد جدي وجدتي وأعمامي وأبنائهم."
يصف المبحوح شعوره بعد التحرر بأنه مزيج من الحرية والمرارة، فالعالم الذي عاد إليه لم يعد كما كان: "لم أجد بيتًا يأويني مع زوجتي وطفلي، فهي تعيش مع شقيقتها، وأنا أتنقل بين بيوت الأقارب والأصدقاء، حتى إنني لم أجد خيمة أسكن فيها."
خرج المبحوح من السجن بوزن 54 كغم فقط، بعدما كان يزن 107 كغم قبل اعتقاله، وذلك بفعل سياسة التجويع التي مارستها إدارة سجون الاحتلال عقب هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
يقول: "طوال أربعة عشر شهرًا، كان الطعام عبارة عن كأس ماء به أربع حبات حمص أو فاصوليا، وملعقتي أرز غير مطهي. كانت وجبات الإفطار والغداء والعشاء مجتمعة لا تعادل ربع وجبة واحدة. في النهاية، لم يبقَ مني سوى العظم والجلد."
"على نفس درب الشهداء سأمضي"
لم يكتفِ الاحتلال بحرمانه من الطعام، بل كان الضرب والتعذيب النفسي والجسدي رفيقًا له حتى آخر لحظة في الأسر. يقول: "بسبب عزلي الانفرادي، تعرضت للضرب حتى أثناء تسليمي للصليب الأحمر، رغم أنني كنت أشك في سبب نقلي، لكنني كنت أستبشر خيرًا."
ويضيف واصفًا لحظة إدراكه أنه سينال الحرية: "وصلت إلى السجن الجديد وصعدت للطابق الأول، وهناك رأيت أسرى من غزة ينادون باسمي: "هذه ترويحة!"، حينها سجدتُ شكرًا لله، وأدركتُ أن حكمي المؤبد قد كُسر."
ذكريات السجن.. دروس في التحدي
على مدار أسره، كان المبحوح يتلقى تهديدات بالقتل من ضباط الاحتلال، إذ قال له أحدهم يومًا: "كتبتُ اسمك على صاروخ، وستُقتل أنت ومن تبقى من عائلتك."
لكن هذه التهديدات لم تفلح في كسر عزيمته، إذ كان يردد داخل نفسه: "على نفس درب الشهداء سأمضي."
ويصف العام الأخير في السجن بأنه الأصعب على الحركة الأسيرة، إذ تعرض الأسرى لتعذيب نفسي وجسدي وجنسي، إضافة إلى إطلاق الكلاب البوليسية عليهم، والتجويع، والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية.
في زنزانة العزل رقم "4" في سجن مجدو، كان المبحوح يقبع بجوار الأسير مروان البرغوثي، القائد في حركة فتح، حيث أمضى معه ثمانية أشهر لن ينساها أبدًا.
يقول: "كنا نتواصل عبر نوافذ الزنزانة لمدة خمس دقائق، نستغلها في التعلم عن البنية الاجتماعية للجيش والمجتمع الإسرائيلي. كان مروان البرغوثي أستاذنا، رجلًا واسع المعرفة، وموسوعة علمية وثقافية لا مثيل لها."
ويضيف: "كان السجانون يعذبون مروان بلا هوادة، لكنه لم يكن يضعف. كانوا يضربونه حتى يتحول لون جلده إلى الأزرق، لكنه بعد نصف ساعة فقط كان صوته ينبعث من زنزانته قائلاً: 'يا جبل ما يهزك ريح. جلستنا على موعدها يا شباب'."
أما عن نائل البرغوثي، أقدم أسير في العالم، فيقول: "كان يصبرنا بكلماته القوية: 'محدش يكسرنا، سنظل صامدين.' كان مثالًا للصمود، وكان حديثه عن تجربة السجن في السبعينات والثمانينات يملؤنا بالعزيمة."
استغل المبحوح سنوات سجنه بالتعليم، فحصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والأمنية، وبكالوريوس في الشريعة الإسلامية والتربية، وماجستير في الدراسات الدولية.
مع كل ما فقده، لا يزال المبحوح يحمل في داخله روح التحدي، ويختم حديثه بالقول: "رغم كل شيء، سأظل ثابتًا على المبدأ، وأحمل راية المقاومة، حتى نحقق النصر أو ننال الشهادة."

