الإسرائيليون أنفسهم، الذين مارسوا كل أشكال الضغط العسكري لتهجير أهالي قطاع غزة ولم ينجحوا في ذلك رغم الإبادة الجماعية، هم أول من وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه مختل عقليًا، عندما طرح فقاعات "فارغة" تتحدث عن تهجير سكان القطاع طوعًا إلى مصر أو الأردن.
يرى الرئيس الأمريكي، الذي جاء من حلبات المصارعة والتجارة، أن غزة سلعة يمكنه بيعها في مزاد عالمي، متجاهلًا مليوني و300 ألف فلسطيني متجذرين في القطاع، ومتجاهلًا رسائل العودة التاريخية لأكثر من نصف مليون نازح من جنوب القطاع إلى شماله في مشهد مهيب أبهر العالم وأثبت تمسك الشعب بوطنه حتى لو تحول إلى ركام.
لم تحظَ تصريحات ترامب بترحيب في وسائل الإعلام الإسرائيلية، رغم أن مضمونها يخدم المشروع الصهيوني القائم على الإحلال. يقول الكاتب في صحيفة هآرتس، أوري مسغاف: "لن يكون هناك أي ترحيل من غزة، ولن يبني الأمريكيون هناك 'ريفييرا'. لا توجد خطة، ولا عمل تحضيري، ولا جدوى، ولا يوجد من سيستقبل على أرضه أكثر من مليوني فلسطيني".
وأضاف: "لسنا في أيام الحرب العالمية الثانية. ترامب يهذي بلا معنى، فهذا أسلوبه. في الماضي، اقترح بناء فنادق في كوريا الشمالية بدلًا من الصواريخ النووية، ومنذ انتخابه تحدث عن غزو بنما، والاستيلاء على غرينلاند، وضم كندا. نحن كبار بما يكفي لنتذكر كيف تقوّى مرة أخرى خلال اجتماع مع نتنياهو عن ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل".
وتابع: "من المهين للذكاء أن نأخذ تصريحات ترامب العشوائية على محمل الجد، إنه مختل عقليًا تمامًا، ونحن نعيش في عصر من الانحدار المتسارع. صحيح أن نتنياهو هو أيضًا مختل نفسي بلا ضمير، لكنه ليس غبيًا. حتى هو تجمّد بعدم ارتياح عندما بدأ ترامب يهذي حول إخلاء غزة، بينما كان يفرط في كيل المديح المحرج له".
على المستوى العسكري، عدّ القائد السابق للقوات البرية الإسرائيلية، اللواء احتياط غاي تسور، خطة ترامب مجرد تصريح فارغ وليست خطة، مشيرًا إلى أن (إسرائيل) لا تستطيع عبر جيشها ترحيل سكان غزة إلى مصر أو عبر السفن.
فيما قال ريفيت هيخت، وهو كاتب بصحيفة هآرتس، إن: "تصريحات ترامب تبدو أكثر غرابة مع مرور الوقت، وهي سلسلة من الثرثرة المبعثرة مع القليل من المضمون الفعلي. صحيح أنه من الصعب تجاهل هذه التصريحات أو رفضها، فهو في النهاية رئيس الولايات المتحدة، لكن في الواقع، ربما هذه هي الطريقة لفهمه. هذا هو مصدر شهرة ترامب والأسباب التي جعلته يُنتخب؛ فراغ علني غير مراقب للمشاعر الشعبية، يُقدم كأفكار منطقية، وتصريحات بلا خطة حقيقية، وبالتالي بلا إمكانية للتحقق منها".
ورأى أنه بعد صفقة التبادل التي تبدو وكأنها استسلام مذل من اليمين الإسرائيلي المتطرف لحماس والفلسطينيين، والتي يدركها ترامب، أطلق الفقاعات في الهواء بهدف مساعدة نتنياهو على الانعطاف يسارًا من أجل إنجاح المشروع السعودي، والثاني استخدام الوضع الإنساني في غزة كوسيلة ضغط إضافية على حماس والفلسطينيين من خلال التهديد بالترحيل القسري.
رئيس مهووس
الصورة التي يقدمها الإعلام الإسرائيلي تكشف جانبًا من شخصية ترامب، والتي يقول عنها الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني، طلال عوكل: "يبدو أن العالم أمام رئيس مهووس بجنون العظمة وامتلاك القدرة الكلية على فعل ما يخطر بباله من هلوسات".
وأضاف عوكل لصحيفة "فلسطين": "المشكلة في أن ترامب يعتبر أن كل شيء، بما في ذلك الأوطان والكرامات والجغرافيا والتاريخ، مجرد سلع قابلة للبيع والشراء. وحين يتجاهل خصائص الشعوب، ومنها الشعب الفلسطيني، فإنه يؤكد جهله بمعركة التاريخ وقراءة الوقائع والدروس. وإلا، لما كان لعاقل أن يتجاهل الرسائل المتعددة والعميقة التي قدمها الفلسطينيون حين زحفوا إلى الشمال رغم معرفتهم بصعوبة ما ينتظرهم. وأهمها أن الشعب الفلسطيني قادر على إفشال كل مخططات التهجير".
بدوره، يقول المختص في الشأن الإسرائيلي، عصمت منصور: "بالرغم من خطورة الطرح، إلا أن الإسرائيليين لا يصدقون أنه قابل للتنفيذ، لكن من جهة أخرى يحاولون استغلاله لشرعنة توجههم الاستيطاني القائم على تهجير الشعب الفلسطيني".
وأضاف منصور لـ"فلسطين" أن الإسرائيليين يعلمون أن ترامب أعد مخططه على عجل وتحدث به دون تفصيل واضح، وهو صاحب شخصية متقلبة ينظر للأمور من زاوية خدمة المصالح الأمريكية، ويُقدم عليها بطبيعته كرجل أعمال، ما يجعله لا ينظر للأمور بعمق ويتجاهل مصالح الشعوب وتاريخها، وهذا ما يجعل مشاريعه مثيرة للسخرية.
التجاهل لرسائل العودة
المتناقض في تصريحات ترامب هو حديثه عن أن بلاده ستسيطر على قطاع غزة وتحوله إلى مدينة "ريفييرا" الإيطالية بعد ترحيل أهلها الأصليين. وريفييرا مدينة إيطالية ساحلية جميلة، ويرى رئيس التجمع الفلسطيني في إيطاليا، محمد حنون، أن حديث ترامب عن تحويل غزة إلى هذه المدينة محاولة تجميل للواقع المأساوي في غزة، وللتغطية على الجريمة الأمريكية التي ساهمت في تدمير القطاع عبر إمداد جيش الاحتلال بمختلف الأسلحة المحرمة دوليًا.
ويتساءل حنون لـ"فلسطين" عن سبب تشبيه ترامب لغزة، ذات الشريط الساحلي الضيق والمنطقة الأكثر اكتظاظًا في العالم، بمدينة إيطالية ساحلية، متجاهلًا الدمار الذي لحق بالمؤسسات والجامعات والبيوت والمشاريع التي دفع الشعب الفلسطيني "دم قلبه" لإعمارها، بينما قامت بلاده بالمشاركة بشكل أساسي في إلقاء نحو 90 ألف طن من القنابل عليها.
ويستشهد حنون بالمثل الشعبي "مجنون يحكي وعاقل يسمع"، واصفًا ترامب بأنه مختل عقليًا ولديه كبرياء لا محدود، ويتعامل مع العالم كأنه مزرعة خاصة. ولهذا، كان هناك رفض عالمي لتصريحاته.
وينمّ طرح ترامب، وفقًا لحنون، عن ثلاثة أشياء: الأول، جهله المطلق بالشعب الفلسطيني الذي أثبت عناده واستعصاءه على الإخضاع، والثاني، غباء نتنياهو الذي مارس كل الضغط العسكري ولم ينجح بتهجير الفلسطينيين، والثالث، أن حال الأمة اليوم ليس كما كان زمن وعد بلفور.
وفي المقابل، لم يتم التعامل مع تصريحات ترامب بجدية في الإعلام الأوروبي، حيث استُقبلت بشكل باهت، وطرحت علامات استفهام حول التعامل بهذه الغطرسة.
ويختم حنون بالقول: "نحن في الحقيقة نقترب من مشهدية العودة وطيّ 76 عامًا من النكبة، وليس في عيش نكبة ثانية".