تحظى مراسم تسليم الأسرى الإسرائيليين بحفاوة شعبية أبهرت العالم، حيث يحتضن خلالها أهالي قطاع غزة المقاومة الفلسطينية أثناء عملية التسليم للجنة الدولية للصليب الأحمر. لم تطفئ هذه الحفاوة والابتهاج المآسي والأحزان التي خلفتها حرب الإبادة الجماعية التي شنها الاحتلال على قطاع غزة واستمرت طيلة خمسة عشر شهرًا.
وتنوع تنفيذ عمليات الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين من مختلف محافظات القطاع، بين ركام جباليا وخان يونس، وفي الميادين الرئيسة بمدينة غزة كساحة السرايا وميدان فلسطين والميناء، في عمليات تسليم منظمة أبهرت العالم، وكشفت عن التحام المقاومة مع حاضنتها الشعبية، في رسالة تحدٍ للاحتلال بأن محاولاته لفرض العزلة على المقاومة باءت بالفشل رغم كل الضغوط والمجازر.
ممر شرفي واحتفاء جماهيري
بممرٍ شرفي اصطف فيه آلاف المواطنين المحتشدين في ساحة السرايا بمدينة غزة، امتلأت جنبات الساحة بأعلام فلسطين، وسط أجواء من النشوة بالنصر. مرت مركبات عناصر النخبة لكتائب القسام بين تلك الجموع في مشهد احتضان شعبي مهيب، تم خلاله تسليم ثلاث أسيرات يوم 19 يناير/ كانون الثاني 2024، مقابل الإفراج عن جميع الأسيرات الفلسطينيات والأطفال من سجون الاحتلال.
وحظيت الدفعة الثانية من مراسم التسليم، التي جرت في 25 يناير/ كانون الثاني، بحفاوة استقبال مهيبة وتنظيم ورسائل صادمة للاحتلال، عندما اصطف مئات المقاتلين من كتائب القسام وسرايا القدس أمام وبجانب منصة كبيرة، حيث تم تسليم أربع مجندات. تمثلت المفاجأة في نزول المجندات بزيهن العسكري من أربع مركبات وصلت إلى ميدان فلسطين "الساحة" وسط مدينة غزة.
أمام حضور جماهيري كبير، وأثناء وقوف المجندات على المنصة، رفعن أيديهن لتحية الجماهير، قبل انطلاقهن بسيارات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي وقع ممثلها على وثيقة الاستلام المختومة بختم كتائب القسام. في المقابل، أفرج الاحتلال عن 200 أسير فلسطيني، من بينهم أسرى ذوو أحكام عالية ومؤبدات، بالتزامن مع عودة مئات الآلاف من النازحين من جنوب القطاع إلى شماله في 26 يناير ذاته.
ابتهاج واحتفاء شعبي
مع كل دفعة تسليم، يتوافد الأهالي من مختلف الأعمار لحضور المراسم ورؤيتها عن قرب، رافعين أعلام فلسطين وشارات النصر، مرددين عبارات داعمة للمقاومة. كما تعمد النساء إلى إلقاء قطع الزينة على المقاتلين تقديرًا لدورهم وبسالتهم في الدفاع عن القطاع والاحتفاظ بالأسرى الإسرائيليين.
ولا تتوقف الاحتفالات عند تسليم أسرى الاحتلال، بل يقيم الأهالي أعراسًا للحرية عند وصول الأسرى الفلسطينيين المحررين من سجون الاحتلال إلى قطاع غزة، حيث يستقبلونهم في نقاط وصولهم أو أمام منازلهم.
وجرت دفعة التسليم الثالثة يوم 30 يناير/ كانون الثاني، حيث أفرجت كتائب القسام عن الأسرى الإسرائيليين: أربيل يهود، وآجام بيرغر، وجادي موشي موزسس. في المقابل، أفرج الاحتلال عن 110 أسرى، من بينهم 32 أسيرًا محكومًا بالسجن المؤبد، و48 أسيرًا بأحكام عالية، و30 أسيرًا من الأطفال.
من وسط حشود كبيرة، بدأت عملية تسليم أربيل يهود إلى وفد الصليب الأحمر في خان يونس، قرب منزل الشهيد القائد يحيى السنوار. أما في أزقة مخيم جباليا وبين ركامه، فقد سلمت مجندة أخرى، في رسائل إصرار وقوة وتحدٍ للاحتلال، تعكس التمسك بالأرض وتكريم قادة المقاومة.
وفي 1 فبراير/ شباط 2025، أفرجت كتائب القسام عن الأسرى عوفر كالدرون، وكيث سيغال، وياردن بيباس، حيث توزع تسليمهم بين ميناء غزة وجباليا وخان يونس. خلال هذه المراسم، استخدمت المقاومة مركبة إسرائيلية صادرها مقاتلوها من مستوطنات "غلاف غزة" خلال عملية "طوفان الأقصى"، ما أثار اهتمام وسائل الإعلام العبرية التي تساءلت عن قدرة القسام على إخفاء هذه المركبة، كما تساءلت عن آليات الاحتفاظ بالأسرى بعيدًا عن طائرات التجسس.
في إطار تنفيذ الدفعة الرابعة، أفرج الاحتلال عن 18 أسيرًا من ذوي المؤبدات، و54 أسيرًا من ذوي الأحكام العالية، و111 أسيرًا من أبناء قطاع غزة اعتقلهم الاحتلال بعد 7 أكتوبر.
التفاف جماهيري والتصدي لمحاولات الاحتلال
يرى الكاتب في الشأن السياسي والعسكري، أحمد عبد الرحمن، أن هذا الاحتفاء الجماهيري غير المسبوق بالمقاومة بعد حرب مجنونة كان متوقعًا، لأن الشعب غير منفصل عن مقاومته، التي هي بالأصل جزء منه.
وقال عبد الرحمن لـ "فلسطين أون لاين": "هذه الحاضنة الشعبية التي كانت تقف إلى جانب المقاومة كان متوقعًا منها هذا الاحتفاء، رغم محاولات الاحتلال إيهام العالم بأن الفلسطينيين تخلوا عن المقاومة نتيجة الخسائر غير المسبوقة التي لحقت بهم".
وأضاف: "لكن الواقع أثبت عكس ذلك، فالمشاهد التي أغاظت الاحتلال ونغّصت عليه أكدت التفاف الشعب حول المقاومة، مما دفع الاحتلال لمحاولة عرقلة الصفقة بطرح مطالب جديدة، خاصة في قضية الأسيرة أربيل يهود وتأخير عودة مئات الآلاف من النازحين من جنوب القطاع".
وتؤكد مشاهد مراسم التسليم، وفق عبد الرحمن، أن الشعب لا يزال ملتفًا حول المقاومة، لأنه يدرك أنه لا خيار آخر للتعامل مع الاحتلال سوى المقاومة بكافة أشكالها.
تكتيكات المقاومة ورسائلها القوية
أشار عبد الرحمن إلى أن المقاومة تعمل بتكتيك دقيق في إخراج مراسم تسليم الأسرى، إذ تظهر شخصيات قيادية سبق أن أعلن الاحتلال اغتيالها، كما حدث مع قائد كتيبة الشاطئ في كتائب القسام، ما يكشف زيف ادعاءات الاحتلال.
كما يرى أن توقيت الإفراج عن الأسرى وأماكن التسليم تتم وفق تخطيط متقن، وكأن هناك سيناريو محكم أعدّه المقاومون، حيث تظهر هذه العمليات وحدة الميدان بين سرايا القدس وكتائب القسام.
وقال عبد الرحمن: "كل ذلك يبعث برسالة بأن هناك تنظيمًا وتخطيطًا محكمًا من غرفة عمليات المقاومة، التي تشرف على عمليات التسليم رغم الواقع الميداني الصعب والطيران التجسسي لدول عدة، ما يجعل إخراج عمليات التسليم بهذه الصورة الرائعة أمرًا مثيرًا للإعجاب، حتى على الجبهة الإسرائيلية".
وأكد أن مراسم التسليم أثبتت أن المقاومة تمتلك خبرة كبيرة في إدارة الصراع، وهي قادرة على فرض سيطرتها رغم التضحيات، مشددًا على أن هذه العمليات توصل رسالة واضحة للاحتلال بأن المقاومة لا تزال تملك الإمكانيات البشرية والمادية الكافية لمواصلة الدفاع عن شعبها، وأنها مستعدة لمواجهة أي عدوان مستقبلي بكل قوة وثبات.