صراع مرير يعتمل في نفس ريم جعرور بين رغبتها في الوصول لركام منزلها أو الامتناع عن ذلك حتى تبقى صورته الجميلة هي آخر ما يحتفظ به ذهنها، وإذ يراودها هذا الصراع فإن تلك الرؤية تبقى مؤجلة حتى تسمح الأمور الميدانية بذلك، لكنها رغم خسارة "تعب العمر" ترى خساراتها ضئيلة بالنسبة لمن حولها من أبناء شعبها وشيئا يسيرا من فاتورة المقاومة التي دفعها أبناء شعبنا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.
وتروي جعرور فرحتها بمنح والد زوجها له "شقة عظم" واسعة المساحة وذات إطلالة ساحرة على شاطئ بحر غزة بعد أن كانت تسكن في شقة صغيرة المساحة في بيت العائلة، وهنا تضافرت جهودها وزوجها في " تشطيب الشقة" حائطا حائطا وركنا فآخر للحصول على "بيت الأحلام" الذي طالما رسماه في مخيلتها.
ولتنفيذ ذلك فقد وضعا "تحويلة عمرهما" في سلة واحدة وشرعا في "اللفلفة" على محال الرخام ومواد التشطيب، وكل ما يدور في خلد جعرور أن تطبق ما تعلمته في عملها كأخصائية اجتماعية في منزلها، فكان إنجاز غرفة الأنشطة لأبنائها هو أول ما اهتمت به، حيث يوجد في ركن منها مسبح خاص بهم ".
تقول: "لم تكن تلك الغرفة لأولادي فقط بل لكل أطفال العمارة اجمعهم فانفذ معهم أنشطة تعليمية وترفيهية وأخرى علاجية لمن يعانون من بعض المشاكل في النمو الاجتماعي".
وتضيف:" وكان هناك ركنا في المنزل للألعاب الخاصة بالبحر الذي كانت تطل عليه شقتها مباشرة، وأخرى مصلى تعلمهم فيه تعاليم دينهم، فقد كان هدفي وزوجي توفير بيئة مناسبة لأبنائي لتعلم كل ما يمكن أن يفيدهم في دينهم ودنياهم".
ولم يدر بخلد "جعرور" أبدا أن يتم استهداف منزلها، "في كل الحروب السابقة لم انزح او أخرج من بيتي ابدا بل كنت استقبل نازحين، فلم أفكر في النزوح رغم صعوبة الأوضاع في "تل الهوى" حيث كنا نتعرض لأحزمة نارية عنيفة ولغاز الفسفور بشكل مكثف".
وتضيف:" كنت أرى أبنائي يموتون أمامي اختناقا أثناء نومهم من الفوسفور، ولكنني أغالب فكرة النزوح من المنزل في نفسي، وأحاول ألا افعلها إلى أن ساءت الأمور كثيرا في المنطقة وأصاب صاروخ العمارة فظن أهلها أنها مستهدفة".
وازاء صعوبة الأوضاع وشوق اهلها الذين يقطنون في حي النصر لها قررت جعرور الذهاب لهم والمبيت عندهم لليلة واحدة، "لم أدر لماذا التقطت صورا لمنزلي قبل مغادرته وكأنه كان الوداع الأخير، امتدت إقامتي عند أهلي لعدة أيام بسبب صعوبة الأوضاع بسبب الحرب، واضطرار أهلي للنزوح من منزلهم إثر تضرره وقصف منزل مجاور لهم".
تكمل: "وفي ليلة اتفقنا أنا وزوجي أن نذهب صباحا لجلب بعض الأغراض من المنزل مع ترك أطفالي لدى أهلي حيث أننا كنا سنذهب لهناك سيرا على الأقدام لعدم توفر المواصلات -فلم أكن قد حملت شيئا من مقتنياتي وحتى أموالي،" استيقظت في الصباح أبحث عن زوجي فلم أجده، هاتفته غاضبة فأخبرني بأنه واقف على ركام منزلنا".
دارت بـ"جعرور" الدنيا من صعوبة الصدمة التي لم تتوقعها يوما، ورغم حسرة فقد المنزل الذي لن يعوضه أي منزل آخر حتى لو كان أجمل، فإن رؤيتها لمصائب الآخرين الذين فقدوا أهاليهم وأحبابهم ومنازلهم جعلها ترى مصابها يسيرا بجانب ما ألمَ بالآخرين".
وحتى تحين اللحظة التي تتمكن فيها من الوصول للمكان فإن "جعرور" تحتفظ بالصورة الأخيرة الجميلة لمنزلها في ذهنها.