قال المدير العام لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، د. محسن صالح، إن "طوفان الأقصى" شكل تحولاً جذريًا في معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأسقط النظرية الأمنية الإسرائيلية وكشفت عجز الاحتلال في مواجهة غزة رغم إمكانياتها المحدودة، كما أثبتت فشل مسارات التطبيع والتسوية التي سعى الاحتلال إلى تعزيزها.
وشدد صالح في حوار مع صحيفة "فلسطين"، على أن مستقبل قطاع غزة، عقب المرحلة الثالثة من اتفاق وقف إطلاق النار، يجب أن يكون قرارًا فلسطينيًا خالصًا يعكس إرادة الشعب الفلسطيني ويحترم ثوابته الوطنية، مشددًا على ضرورة حماية سلاح المقاومة باعتباره الضمان الأساسي لاستمرار الحفاظ على المكتسبات التي تحققت في المعركة، بعيدًا عن الضغوط الخارجية أو التنازلات التي قد تفرضها بعض الأطراف.
معادلة جديدة
وقال: إن "طوفان الأقصى" أسقط النظرية الأمنية الإسرائيلية، حيث وجهت المقاومة الفلسطينية ضربة قاسية للمنظومة العسكرية الإسرائيلية، وأفشلت فكرة "الملاذ الآمن" للمستوطنين اليهود في فلسطين، ما دفع مئات الآلاف منهم إلى الهجرة لخارج (إسرائيل).
كما أسقط أيضًا "طوفان الأقصى" فكرة "القلعة المتقدمة" للمشروع الغربي في المنطقة العربية، إذ لم يعد الاحتلال الإسرائيلي قادرًا على أن يكون "شرطي المنطقة وعصا غليظة" بعد الضربات القاسية التي تلقاها من المقاومة، أضاف صالح: "هذه الضربات كشفت عن ضعف الاحتلال، وأكدت أن دوره في المنطقة لن يكون ممكنًا إلا في بيئات ضعيفة ومتفككة، في حين أن مناطق مثل غزة تتحلى بالعزة والكرامة فمن المستحيل أن يقوم بهذا الدور".
وأكد أن مبررات التطبيع العربي مع (إسرائيل) سقطت، بعدما استندت إليها بعض الدول في النزاعات بالمنطقة، بزعم أنها اذا طبعت معها ستستقوي فيه على دول أخرى، مشيرًا إلى أن الاحتلال فشل تمامًا في مواجهة حالة مقاومة كغزة بإمكانياتها المحدودة، ما أثبت عدم جدوى تلك المبررات.
ووفق صالح فإن "طوفان الأقصى" نجح في خلق موجة دعم غير مسبوقة للشعب الفلسطيني، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، فقد تم تجريم الكيان الإسرائيلي في العديد من المحافل الدولية، وانهارت سرديته التي كانت تدعي أنه "واحة ديمقراطية في المنطقة" أو "ضحية دفاع عن النفس" لتتقدم السردية الفلسطينية في الساحة الدولية، لافتًا إلى أن هذا التغيير في المواقف الدولية وضع (إسرائيل) في عزلة لم تشهدها من قبل، مع تزايد الضغوط الدولية عليها وملاحقة قادتها بسبب جرائمها المستمرة.
كما أسقط أيضًا مسار التسوية السلمية وأثبت صحة مسار المقاومة، باعتباره اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو، والسبيل الوحيد لتحقيق الإنجازات على الأرض. وأضاف صالح أن الطوفان عزز الحل الإسلامي لفلسطين، وأظهر أن "الرؤية الإسلامية" وتطبيقها بشكل صادق على الأرض هي الأقدر على صناعة الإنسان وتأهيله وتعبئتها وتقديم نماذج من التضحية والصبر وإيجاد بيئة حاضنة شعبية مؤمنة صابرة ومحتسبة.
وأشار إلى أن الشعب الفلسطيني قد قدم تضحيات كبيرة لتحقيق هذا المنجز، حيث ارتقى أكثر من 56 ألف شهيد، وأصيب 110 آلاف آخرين، ودمر أكثر من 70% من قطاع غزة، وهجر أكثر من مليون وتسعمائة ألف فلسطيني. ومع ذلك، شدد على أن الفلسطينيين، رغم هذه المعاناة والمذابح والحصار والتجويع، قبضوا على الجمر على مدى أكثر من 15 شهرًا، وتمسكوا بخيار "الحرية والكرامة والدفاع عن أرضهم ومقدساتهم"، ولم يكن لديهم سوى هذا الخيار أمام محاولات الاحتلال لانتزاع أرضهم وحقوقهم واستعبادهم.
خيار المقاومة
كما أكد المدير العالم لمركز الزيتونة، أن "طوفان الأقصى" أحدث تحولات جذرية في معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أبرزها تعزيز خط المقاومة في مواجهة المشروع الصهيوني، وإفشال خط التطبيع مع الاحتلال، كما كشف الوجه القبيح للمشروع الصهيوني، وارتفع جدران الدم بينه وبين البيئة العربية، حيث أصبح منبوذًا وسدت أبواب التطبيع في وجهه عمليًّا على المستوى الشعبي.
وأضاف: أن "طوفان الأقصى" عزز خط المقاومة وعزل مسار التسوية، حيث كشف الكثير من الأطراف التي كانت تنسق أمنياً مع الاحتلال، وتحديدًا أولئك الذين كانوا يطاردون المقاومة ويمنعونها من أداء دورها الحقيقي والفعال في دعم وإسناد غزة، إذ كشفت مواقف الجميع تجاه قضية فلسطين، وتجاه السبيل الأنسب للتعامل مع قضية فلسطين.
كما أن الشعب الفلسطيني بات أكثر التفافًا حول خيار المقاومة وتضحياتها، وأصبح يفخر بما حققته هذه المقاومة من إنجازات، ما أرغم الاحتلال على إبرام صفقة تبادل أسرى مشرفة، يفرج بموجبها عن المئات من الأسرى الفلسطينيين المحكوم عليهم بالمؤبد، رغماً عنه وكل آلته العسكرية والعدوانية.
وهذه التحولات، وفق صالح، وضعت قيادة السلطة في رام الله ومنظمة التحرير في موقف حرج وحشرها في الزاوية، حيث فقدت الشرعية الشعبية، لأنها لم تعد تستند إلى إرادة الشعب الفلسطيني، بل إلى دعم عربي ودعم دولي، ووفقًا لاستطلاعات الرأي، يطالب أكثر من 90% من أبناء الضفة الغربية الرئيس محمود عباس بالاستقالة، ما يعكس تزايد الاستياء الشعبي تجاه قيادة السلطة.
وشدد على ضرورة أن يجد هذا الالتفاف الشعبي حول المقاومة صدى في المؤسسات السياسية والتشريعية الفلسطينية، بما يعكس إرادة الشعب الفلسطيني ووحدة فلسطينية تقوم على الثوابت الوطنية، لا على مسارات التسوية التي ثبت فشلها.
معايير النصر
وعن تقييمه لنتائج طوفان الأقصى بمعايير الانتصار والهزيمة، أوضح صالح أن العدو الإسرائيلي أعلن عن خمسة أهداف رئيسية لحربه في غزة، تتمثل في سحق حماس والمقاومة، واحتلال غزة، واستعادة الأسرى، وتأمين المستوطنات، بالإضافة إلى تهجير الفلسطينيين من غزة أو تطبيق ما يسمى بـ"خطة الجنرالات"، إلا أن الاحتلال فشل في تحقيق أي من هذه الأهداف، بل تكبّد المزيد من الخسائر العسكرية والسياسية.
وعلى عكس ذلك، فقد تمكنت المقاومة من فرض شروطها، وتحقق لها ما أرادت: إنهاء الحرب، خروج الاحتلال من غزة، وتنفيذ صفقة تبادل أسرى مشرفة، وبالتالي، فإن "المقاومة قد انتصرت لأن أهدافها تحققت في حين فشل العدو في تنفيذ أهدافه"، وفق حديث صالح.
وذهب إلى أن "الفشل الإسرائيلي في تحقيق أهدافه يعكس بوضوح انتصار المقاومة، رغم التضحيات الجسيمة التي قدمتها. هذه التضحيات هي التي منحت الشعب الفلسطيني في غزة انتصارًا مشرفًا، حيث نجحت المقاومة في كسر إرادة الاحتلال، وهو ما اعترف به الكتَّاب والساسة الإسرائيليين، مشددًا على أنه "لا يمكن لأي جهة محرضة أو مشككة أن تفسد فرحة الشعب الفلسطيني بهذا الانتصار الذي تحقق بفضل صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته".
وبين أن معايير الانتصار والهزيمة في مثل هذه الحروب لا تقاس بعدد الضحايا والدمار، بل بقدرة المقاومة على إفشال خطط العدو والنكاية به. وتابع: "المقاومة استنزفت العدو على كافة الأصعدة، وزادت من خسائره العسكرية، ما رفع كلفة الاحتلال، إلى درجة أنه أصبح من المستحيل استمرار وجوده على الأرض الفلسطينية، فالمعيار الحقيقي للانتصار هو إفشال خطط العدو وإجباره في النهاية على الانصياع لإرادة المقاومة، وهذا ما حدث بالفعل."
وأشار إلى أن المقارنة بين قدرة الاحتلال الإسرائيلي، المدعوم من أقوى القوى العالمية مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا وألمانيا، وبين المقاومة الفلسطينية التي تفتقر إلى الحد الأدنى من الإمكانات الإستراتيجية، ومحاصرة منذ 17 عامًا، تظهر أن الانتصار ليس مرتبطًا بالقوة العسكرية بقدر ما هو مرتبط بالإرادة والصمود في مواجهة الاحتلال.
مستقبل غزة
وعن شكل غزة عقب المرحلة الثالثة من اتفاق وقف إطلاق النار، قال صالح: "إنها تتمثل في الانسحاب الكامل للعدو الصهيوني من قطاع غزة، نأمل أن يكون القرار الفلسطيني فيها قرارًا خالصًا، قائمًا على توافق داخلي يلتزم بالثوابت الوطنية ويحترم إرادة الشعب الفلسطيني، مشددًا على ضرورة عدم المس بسلاح المقاومة، لأن الحفاظ عليها يمثل ضمانة لحماية المكتسبات التي تحققت."
ورأى أن "أي سلطة تدير غزة يجب أن تعكس إرادة الشعب الفلسطيني الحقيقية، ولا ينبغي أن تكون أداة لتنفيذ أجندات صهيونية غربية أمريكية، أو عربية مطبعة مع الاحتلال، وإنما يجب أن تكون الأجندة الفلسطينية متسقة مع حقوق الشعب الفلسطيني وتطلعاته، بعيدًا عن الضغوط الخارجية."
وأكد صالح أن "حماس وقوى المقاومة استطاعت أن تفرض إرادتها على الاحتلال وعلى العالم، ومن حقها أن تحظى بالاحترام ما دامت تتمتع بدعم شعبي واضح، كما تشير إليه استطلاعات الرأي، وأن تُحترم هذه الإرادة هو الأساس في تحديد الترتيبات المتعلقة بمستقبل قطاع غزة، بما يضمن سيادة القرار الفلسطيني وعدم التفريط بالحقوق الوطنية."