فلسطين أون لاين

العرعير.. بكى شوقًا لرفاقه الراحلين فلم يتأخر عنهم

...
صورة أرشيفية
غزة - مريم الشوبكي

نادى زوجته ليصلي معها العصر جماعة، ولما طبلت منه أن ينتظرها قليلا ريثما تتوضأ، صلى بمفرده لأنه على عجلة لضرورة التوجه إلى عمله، والغريب أن يوم الأربعاء كان يوم إجازة له، ولكن انشغال زملائه جعله يخرج لمهمته الجهادية بدلا منهم، فخرج على عجل كأنه يلبي نداء الشهادة الذي ينتظره مساءً.

في يوم الثلاثاء السابق ليوم استشهاده، كان الضحك مسيطرا عليه طيلة اليوم، لدرجة جعلت زوجته تستفسر مستغربة: "ما فيه شي بيضحك!" ليرد عليها: "اضحكي، وخليكي مبسوطة"، ثم أوصاها: "ديري بالك على حالك، وعلى ابني اللي في بطنك".

مثل العصفور

الشهيد القسامي "رامي العرعير" ودّع الحياة الدنيا مساء السابع من نوفمبر الحالي بعد انهيار نفق للمقاومة، فاستشهد فيه هو وأقرب أصدقائه إليه الشهيد "إسماعيل شمالي"، ليرتقيا شهداء كما تمنيا، فقد كانا دائمي القول: "الجنة بدها رجالها".

"أم رشاد" والدة الشهيد عادت بالذاكرة أثناء حديثها لـ"فلسطين"، إلى يوم ولادة رامي، قالت: "لم أشعر بولادته، حيث كانت ولادته أسهل ولادة لي، كان هادئ الطبع بشوش الوجه، مطيعا لا يحب أن يُغضب أحدا، كان كتومًا جدا، متدينا، ومُحافظا على صلاته، واهتم بحفظ القرآن منذ طفولته".

وأضافت: "في الصف السادس الابتدائي بدأ بحفظ القرآن، ولما صار عمره 17 عاما أتم حفظه كاملا، وفاز بمسابقات لتلاوة القرآن، ولم يكتف بذلك بل كان يحفّظه للأجيال من بعده، إذ كان محفّظًا للأطفال في المسجد".

وتابعت: "في المرحلة الثانوية، كان كثير الخروج من البيت، وحينما أسأله عن سبب خروجه، يرد قائلا أتطوع في سبيل الله يا أمي، كرد فعل طبيعي مني كأم كنت أخاف على ابني، فأقول لأبيه: ابنك يرابط مع (حماس)، لكنه لم يكن يتذمر أو يحاوله منعه عن فعله، بل كان يطلب مني أن أدعو الله بأن يحميه".

لم ينسَ الشهيد "رامي" استكمال دراسته الجامعية إلى جانب أداء مهامه الجهادية، حيث على حصل بكالوريوس شريعة وقانون من الجامعة الإسلامية، وبعدها تزوج من ابنة عمه "شيماء" التي تنتظر طفلهما البكر بعد شهرين.

تتحدث أم رشاد عن آخر أيام ابنها قائلة: "كان مثل العصفور، يطير كالنسمة، لم يكن يجلس في البيت إلا قليلا"، لافتة إلى أنها وحينما كانت تطلب منه البقاء معها ومع زوجته كان يقول "الجنة بدها رجالها"، فترد عليه: "نحن في صراع ليوم الدين يا ابني"، فيأتي ردّه بثقة: "تتحرر فلسطين بأيدينا".

وأوضحت حديثها: "في أيامه الأخيرة معنا، كان وجهه يلمع ويشعّ نورا، ما أدخل في قلبي شكًا بقرب استشهاده، فكنت أقول لزوجي إن ابننا فيه شيء لله، وهو من سيدخلنا الجنة، ومن سيلبسنا تاج الوقار، مرجعة ذلك إلى حفظه للقرآن وليس إلى تأكدي من قرب شهادته، حتى لا أُقلق أباه".

وهبتها لله..

كأي أم تريد أن ترى ابنها في وظيفة مرموقة، كانت "أم رشاد" تدفعه لأن يبحث عن عمل في مجال تخصصه، ولكن "رامي" لم يكن يتطلع لمنصب أو وظيفة ولسانه يردد "أنا وهبت نفسي لله".

حينما كان "رامي" يخرج إلى الرباط في ساعة متأخرة من الليل، كانت عيون والدته تراقبه ولسانها يلهج بالدعاء: "ربنا يحميك ويسهل عليك" حتى يختفي عن نظرها، وحينما كانت تتذمر قليلا من خروجه المتواصل وتركه لزوجته لساعات طويلة وهو "عريس" كان يقول لها "بدنا نعوض إلى راح يمّا" ويقصد إعادة بناء الأنفاق التي دمرها الاحتلال في حربه الأخيرة.

ووجهت أم رشاد رسالة لكل شاب: "لا تيأسوا، أكملوا ما قام به رامي، وسيروا على دربه كما أراد، وبإذن الله سيكون النصر حليفنا على أعدائنا".

وفي الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2014، قصف الاحتلال المسجد المجاور لبيته، لكن هذا لم يمنعه من مواصلة مسيرته في تحفيظ القرآن للأطفال، لم ييأس وقام بنصب "شادر" فوق الركام وجلس مع تلاميذه يحفّظهم على ضوء الشموع.

سيدة حور العين

"شيماء"، زوجة الشهيد، كانت تدعو ربها بأن يرزقها زوجا مجاهدا، وكان لها ما أرادت حينما صارت زوجة المجاهد "رامي"، والذي حدثته عمّا كانت تدعو به ليقول لها "نيتك صافية".

تنتظر شيماء مولودها "رامي" الذي صممت على تسميته باسم أبيه بدلا من "أسامة"، فكنية الشهيد كانت "أبو أسامة"

"رامي" كان شديد السعادة عند معرفته بحمل زوجته، ووزع الحلوى فرحا بهذا النبأ، وتمنى أن يرزقه الله بابن ذكر، فيما أرادت زوجته مولودة أنثى، وكان يبرر رغبته بأنه يريد ابنا يحمل اسمه، ويواصل مسيرته، وكان يخطط لتحفيظه القرآن، وتعليمه حتى يصبح مهندسا في تخصص يخدم المقاومة.

وقالت شيماء لـ"فلسطين", إن زوجها قبيل استشهاده كان يبدو وكأنه يشعر بقرب الشهادة، حيث كان يسمع أناشيد المقاومة والشهادة باستمرار، ويجهش بالبكاء على أنغامها ويقول لها: "اشتقت لأصحابي الشهداء، يوم استشهادي سيكون عرسا وليس عزاء".

وأضافت: "كان جل وقته في الرباط وفي عمله الجهادي، لا أراه إلا لساعات قليلة، حتى أنه خرج إلى عمله في صبيحة يوم زفافنا، فغضبت قليلا وقلت له (ماذا سيقول عنك الناس؟)، فرد (سيقولون نيالها)".

وتابعت شيماء: "كان يطلب مني على الدوام أن أصبر، لا سيما أنني كنت أطلب منه أن يطيل تواجده معي وأن يخفف قليلا من انشغاله، ولكنه كان يقول لي (اصبري، كل أجر آخذه في رباطي أنتِ لكِ مثله، لا تحزني لاستشهادي، ابقي بقربي لتكوني أنتِ سيدة حور العين في الجنة".