"أنا صحَّ صابرة وما بدي أبكي بس حياتي صعبةً بعد أهلي.."، هي "ملحمة شعوريَّة" تعيشها العشرينيَّة زينة البيُّومي على سرير المستشفى، يمتزج فيها الوجع مع إرادة الصَّبر على إصابتها وفقدها أعزَّ النَّاس إلى قلبها.
لا تعرف زينة كيف انقلبت سهرةً أسريَّةً صنعت فيها شيئًا من السَّعادة الَّتي غيَّبتها حرب الإبادة الجماعيَّة بمنزلهم في مخيَّم النُّصيرات، إلى مأساة، وكيف ذبلت زهرة عمرها مبكِّرًا بمذبحة وقعت بغتةً، وسرقت منها "الحضن الدَّافئ" لها ولأحلامها.
تخاف زينةً من أن ينطق لسانها شيئًا من تفاصيل المذبحة لئلَّا تكشف دموعها أمام النَّاس انهيار قلبها المرهف، الَّذي واجه قسوةً وحشيَّةً لا مثيل لها في حياتها.
محطات متعددة للمعاناة سبقت وقوع الفاجعة التي عاشتها زينة وعائلتها منذ بدء حرب الإبادة الجماعية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
تتحامل زينة على نفسها وهي تروي لـ"فلسطين أون لاين" تفاصيل وجعها، وقد أجبرها جيش الاحتلال على النزوح من النصيرات في أوائل العام الجاري، لتترك قسرا بيتها وذكرياتها وحياتها هناك.
تقول: "بقينا في النصيرات إلى أن أجبرنا الاحتلال على النزوح حيث أراد شن عمليات عسكرية في مخيمنا، واتجهنا إلى رفح ومكثنا فيها 40 يومًا بعيدًا عن مسكننا".
ورافق زينة في رحلة النزوح الشاقة والداها الخمسينيان وإخوتها الثلاثة، وجدها الثمانيني عبد الحميد البيومي.
والنصيرات ضمن المناطق التي زعم جيش الاحتلال الإسرائيلي أنها "آمنة" في بداية حرب الإبادة وطالب سكان شمال قطاع غزة بالتوجه إليها مع مخيمات ومدن وسط وجنوب القطاع.
لكن المذبحة التي كانت زينة وعائلتها ضحية لها هي واحدة في سلسلة من المذابح المستمرة في جميع أنحاء القطاع، وقتلت وأصابت نحو 150 ألف غزي تظهر المعطيات الصحية أن معظمهم أطفال ونساء.
واستهدف القصف كتلة سكنية مكتظة بالمدنيين. وأسفر عن استشهاد 33 شخصًا، بينهم أطفال ونساء ومسنون، وإصابة وفقدان نحو 84 آخرين، وفقا لبيان صادر عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
في رفح، كانت وجهة زينة وأهلها منزل خال والدتها الذي استقبلهم لأكثر من شهر، قبل أن يقرروا العودة إلى بيتهم في النصيرات.
ولم يكن في الحي الذي تعيش فيه بالنصيرات حينها سوى عائلتها وعائلتان أخريان بسبب موجة النزوح القسري، ثم توالت عودة عائلات أخرى.
"كل يوم كنا نسمع أصوات القصف والقذائف والدبابات... بقينا في منزلنا لأنه لا مكان آخر لنا نذهب إليه"، تستجمع زينة خيوط الحدث الفاصل في حياتها.
ذلك مع اكتظاظ النازحين في مساحة ضيقة غرب المحافظة الوسطى وخانيونس ورفح، وتكدسهم في خيام ومخاطرة آخرين بالبقاء فيما بقي من منازل مهددة بالقصف في أي لحظة.
تتابع زينة: "ظننا أننا سنكون آمنين في بيتنا، ولم نتوقع لوهلة أن نتعرض للقصف".
في 10 ديسمبر/كانون الأول تغير كل شيء في حياة زينة.
يومها كانت الشابة وإخوتها يحاولون أن ينتزعوا لحظات من الفرح وسط حرب الإبادة، وفي نهاية سهرتهم توجه كل منهم إلى سريره، وعند الحادية عشر ليلا انهمرت عليهم الصواريخ.
لم تدرك زينة شيئا عن تفاصيل الغارة الجوية هذه، إلا عند وصولها للمستشفى وبدء استعادة وعيها بعد عملية جراحية وجرعة دواء.
عن ذلك تقول: وقتها كنت نائمة، لم أسمع صوتا، واستيقظت وأنا مصابة، ولم أكن أعرف أنهم أسقطوا المنزل على رؤوسنا.
وكل ما تعرفه أنها أحست بنفسها قبل ذلك تحت الركام، يحاول الناس انتشالها وهي عاجزة عن النهوض.
وأثناء وجودها تحت الركام، كانت تتلقى أسئلة في حالة اللاوعي والصدمة عن أهلها، ولا إجابات يمكنها تقديمها.
تنتشر الآن الآلام في قدمها ويدها اللتين تعرضتا للكسر وركب فيهما الأطباء البلاتين.
لكن الألم الأكبر هو باستشهاد سبعة أفراد من عائلتها هم والداها واثنان من إخوتها وجدها وعمها وابنه.
يطغى عليها كابوس أسود، يفرض نفسها على كلماتها وصوتها المتحشرج: "هؤلاء هم أهلي وكل شيء في حياتي".
وتجول وتصول في نفسها تساؤلات عن الذنب الذي اتركبته لتتحول حياتها إلى جحيم، بدلا من أن تبني حياتها كأي شابة في العالم في كنف أسرتها.
تحاول زينة استدعاء الصبر بحديثها المتكرر عنه لمواجهة مستقبل لا تعرف عن تفاصيله شيئا، لكن بريق عينيها يكشف عن خوف ووجع لا نهاية لهما.