فلسطين أون لاين

المصالحةُ تغيظُ الإسرائيليين والوحدةُ تثير مخاوفهم

الإسرائيليون يراقبون المصالحة الوطنية الفلسطينية لكنهم غاضبون، ويتربصون بها، ويدعون أنهم إزاءها صامتون وفيها لا يتدخلون، ويحذرون منها لكنهم فيها يأملون، ويتابعون تفاصيلها لكنهم على أطرافها يشترطون، ويزورون بصمتٍ راعيتها وينصحون، ويحاورونها ويقترحون، ويضغطون عليها ويطلبون، ويصرون على بعض الضمانات ويشرحون، ويبدون مخاوفهم أمامها ويعترضون، ويطلبون منها ضمانة الأطراف وطمأنينة الجوار، الأمر الذي ينفي تمامًا أنهم على الحياد يقفون، وفي الشأن الداخلي الفلسطيني لا يتدخلون، وأنهم يحترمون السيادة الوطنية الشعبية الفلسطينية ولا يحاولون التأثير عليها أو الضغط على أطرافها، ولا يعنيهم كثيرًا أتفق الفلسطينيون فيما بينهم أم اختلفوا، ولا أستمر الانقسام أم عادت إليهم اللُحمةُ الوطنية الفلسطينية، والوحدة النضالية والترابية والسياسية.


ما حدث في القاهرة يقينًا أمرٌ يسوء الإسرائيليين ولا يسرهم، وقطعًا يزعجهم وينغص عليهم، ويضر بهم ولا ينفعهم، ويعطل برامجهم ويفشل خططهم، ويعرض أحلامهم للتبديد ومشاريعهم للخسارة، إذ ينذرهم بجبهةٍ فلسطينيةٍ موحدةٍ، واتفاق وطنيٍ متماسك، والتفافٍ جماهيري مخيف، وصورةٍ شعبيةٍ ووطنيةٍ ناصعةٍ، وحالةٍ من الفرحة والتهنئة المباركة على المستويين العربي والإسلامي كبيرة، وخروجٍ من الأزمة المستعصية، وانتهاءٍ للقطيعة البشعة، وعودةٍ للعلاقات الطبيعية، وما فيها من رفعٍ للحصار، وتخفيفٍ عن السكان، وإعادةٍ للحقوق وتسويةٍ للموظفين ورواتبهم، وغير ذلك مما كان ينغص على الفلسطينيين عيشهم، ويضيق عليهم حياتهم، ويدفعهم إلى اليأس والقنوط، ومحاولة الفرار والهروب، والسلبية والابتعاد.


كيف لا تنغصهم المصالحة وتزعجهم، وهم الذين كانوا سعداء بفرقة الشعب الفلسطيني واختلافه، وانقسامه إلى شطرين، وتحصنه في خندقين متناقضين، ووقوفه في جبهتين متحاربتين، تكره إحداهما الأخرى، وتكيدان لأنفسهما، وتضيقان على شعبهما، وتنتقم إحداهما من أتباع الأخرى، وتعتقل نشطاءها، وتسوم بالتعذيب مؤيديها، في المنطقتين، ولا يقوى أحدهما على عقد نشاطٍ أو إقامة مهرجانٍ أو إحياء مناسبة في منطقة الآخر إلا ما نذر، وضمن أضيق الظروف الأمنية وأفضلها سياسيًّا، وبعد موافقاتٍ أمنيةٍ مشددةٍ ووساطاتٍ سياسية وحزبية مضنية؟!، وهل كان الإسرائيليون يحلمون يومًا في أن يقوم مقامهم من يحمل عصاهم، ويلوح بها أو يضرب، ومن ينفذ سياساتهم ويلتزم بتعليماتهم ومخططاتهم، وإن بدا أنه يعاندهم ويخالفهم، ويقاومهم ويقاتلهم؟!، لكن الحقيقة على الأرض أن الفرقة خدمتهم، والانقسام نفعهم، والتشبث بالمواقف غذى سياستهم، ومكنهم من تنفيذ أغلب مشاريعهم الاستيطانية والتهويدية.


الإسرائيليون كانوا فرحين بالتراشق الإعلامي بين طرفي الانقسام، وتبادلهما السباب المقذع على وسائل الإعلام، والاتهامات المتبادلة فيما بينهما، والاعتقالات الجارية في صفوفهما نكايةً وعقابًا، وكانوا ينقلون في وسائل إعلامهم أخبارنا الشائنة وتصرفاتنا المعيبة، بطريقةٍ لا تخلو من الشماتة والتشفي، والسعادة والفرح؛ فهذه الصورة الفلسطينية المخزية تخدمهم وتنفعهم، وتساعدهم في نقل روايتهم الكاذبة والضغط على المجتمع الدولي لتصديقها والقبول بها، واعتمادها والبناء عليها، وعدم الثقة بالفلسطينيين، فهم ليسوا أهلًا لدولةٍ، ولا يستحقون سيادةً، ولا يمكن الثقة بهم لضمان الالتزام بالاتفاقيات والمواثيق الدولية.


وصحيح أنه عدونا المحتل لأرضنا والغاصب لحقوقنا، والمعتدي علينا والمتسبب الأول في كل مصائبنا، لكنه صادقٌ، وإن كان يكذب أبدًا، وقد قال الحق، وإن كان قد أراد به باطلًا، فالانقسام كان _ولا يزال_ لا يخدم أحدًا مثلما يخدم العدو، ولا ينفع أحدًا مثلما ينفع خصوم الشعب الفلسطيني، وإنه ما أضر بأحدٍ كما أضر بالفلسطينيين وسمعتهم، وكما أساء إلى الأجيال الفلسطينية كلها في الوطن والشتات؛ فقد عطل حياتهم، ودمر مستقبلهم، وقضى على كل أحلامهم، وأزهق كل طموحاتهم، ودفعهم إلى اليأس والإحباط، والبحث عن أي سبيلٍ أو مخرجٍ، أو لجوءٍ وهجرة، وإن كان فيها حتفهم ومماتهم، وغرقهم ونهاية آمالهم وأحلامهم.


يكذب الإسرائيليون عندما يدعون أنه لا علاقة لهم بالمصالحة الداخلية الفلسطينية، وأنهم ليسوا طرفًا فيها، ولا يملون شروطًا على أطرافها، ولا يعنيهم الاتفاق من قريبٍ أو بعيدٍ، لكن الحقيقة أن العلاقات البينية الفلسطينية تهمهم وتؤثر عليهم؛ فهم يرون مصلحتهم في ضعف الفلسطينيين وتشرذمهم، وفي تشويه صورتهم أمام الرأي العام العربي والإسلامي والدولي، فهذا يدفعهم إلى قبول أي حلولٍ تسووية قادمة في المنطقة، ويجعلهم أضعف من أن يعارضوا أو أن يقفوا في وجهها ويتصدوا لها، ولهذا لا يرضي العدوَ الإسرائيلي وحدةُ الفلسطينيين واتفاقُهم، ولا رأبُ صدعهم وجمعُ كلمتهم، ولا حلُّ مشاكلهم وتجاوز أزماتهم، ولا صفاءُ نفوسهم ونقاءُ قلوبهم، وتعاونهم فيما بينهم؛ فهذا نقيض حاجتهم ويخالف سياستهم.


لو أننا كنا نعي ونعقل، وندرك ونفهم، ونصدق ونخلص، ونحب شعبنا ونعمل من أجله، ونحرص على وطننا ونضحي في سبيله، ونخاف على أجيالنا ونعمل من أجلهم، ونتطلع إلى المستقبل ونخطط له؛ كنا مضينا في المصالحة الوطنية منذ زمنٍ بعيدٍ، وأنجزناها قبل سنواتٍ طويلةٍ، وسهرنا على تنفيذها والالتزام ببنودها بصدقٍ وأمانةٍ، وحرصٍ ووفاءٍ، وما كنا لنضع أمامها العقبات والعراقيل، ولا التحديات والصعاب، ولا غيرها مما يُساء فهمه ويُتعمدُ قصدُه، وما كنا أصغينا للشياطين الماكرين، ولا مكَّنا العدو من أن يهمس في آذاننا، أو يوحي إلى بعضنا، ذلك أن ما ينفع شعبنا هو الخيرُ، وما يحافظ على وطننا هو الحقُ، وما يصون قضيتنا هو الطريقُ، وما سوى ذلك باطلٌ وضلال، وتيهٌ وضياعٌ، وخسارةٌ وفقدٌ وفناء، فهل يدرك قادة الانقسام ذلك، ويعون هذه الحقائق، أم أنهم لا يملكون عقلًا يميز، ولا ناموسًا يحكم، ولا ضميرًا يحاسب؟!