"كنا قاعدين في الشارع بنلعب وطبت الهواية (حدث الانفجار)... محمد أخويا قلب راسه على الرمل"، في غمرة وجعها تحتل تفاصيل "اللعبة الأخيرة" بين الطفلة المصابة ريم عنبر وشقيقها الأصغر ذاكرتها ومخيلتها.
على بعد خطوات فقط من مسكنهم شمال مخيم النصيرات، افترشت ريم (7 أعوام) ومحمد (عامان ونصف العام) الأرض للعب بالرمال في الرابع من ديسمبر مع انعدام أماكن الترفيه، لكن أيا منهما لم يدرك أن صاروخا مباغتا سينهي اللعبة.
الآن تلازم ريم كرسيًا متحركًا في المستشفى، مثقلة بجراحها وأوجاعها، تحمل ملامحها البريئة وعينيها آهات تنطق بما لا يقوى عليه لسانها.
تتحامل الطفلة على نفسها وتبدو حريصة على رواية لحظة فارقة جاءت مبكرا في حياتها، قائلة لـ"فلسطين أون لاين": "أنا أكلتها (أصبت) برجلي وصدري وضهري والرئتين.. ومحمد انقلب.. أنا خفت".
تنتزع ابتسامة خفيفة ممزوجة بتنهيدة طويلة، ذاكرة أن طفلا آخر كان يلعب معهما نجا من الغارة الجوية، ولم يصب بأذى.
إلى جوارها تشاركها والدتها الأسى في هذا المصاب الجلل الذي غزا حياتهما دون استئذان، قائلة: "ذهبت لتلعب هي وأخوها مثل كل الصغار، فجأة صارت الضربة، هرعت لأبحث عن أولادي لقيتهم مغمى عليهم".
وتسكن والدة ريم مع أسرتها في محل مخصص بالأصل للتجارة، في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة في قطاع غزة والتي تفاقمت سوءا مع حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
تحاول الأم إظهار شيء من التماسك رغم عاصفة الحزن التي تجتاح مشاعرها، موضحة أن صوت الانفجار الناجم عن الغارة كان ضخمًا، وأسفر عن نحو سبعة شهداء، وإصابات بالبتر والشلل، منهم مواطنون كانوا يخبزون عجينا كافحوا للحصول عليه.
وهذه ليست المرة الأولى التي يفرض فيها على أسرة ريم مواجهة القصف، إذ إن طائرات الاحتلال الحربية تمارس "هوايتها" في نسف مظاهر الحياة في منطقة سكنها ضمن حرب الإبادة بما يشمل المساجد.
ولريم شقيق آخر (9 أعوام) وشقيقة (11 عاما)، حلت بهم الصدمة مما حدث، تقول الأم بصوت متحشرج: عندما وقعت الضربة كنت أجهز لهم الغداء.. كل يوم كنت أوفر مكون واحد من مكونات المقلوبة التي يشتهونها وتمنى محمد تناولها، فتارة وفرت البطاطا وأخرى الباذنجان وهكذا.
ذلك مع مأساوية تفاصيل الحياة بما في ذلك شح الغذاء في قطاع غزة بسبب الحرب الطويلة التي أنهكت الغزيين.
"جهزتله ياها لكن ما أكلها... محمد استشهد"، هي عبارة نطقتها ونزف معها قلبها، وكأنما اجتمعت معها مصائب الدنيا، وهموم الحرب.
وتضيف: جهزنا له بدلا من المقلوبة كفنا وقبرا.
وقبل أيام فحسب، وصف محمد القبر لوالديه، وماذا رأى في منامه عما يحيط به من شجرة زيتون وأشجار أخرى، قائلا لأمه: "بابا استشهد.. بابا بكى وأنت بكيت وكلكوا بكيتوا إلا أنا".
حينها استغربت والدته وقالت له: كيف بكى أبوك ويفترض أنه استشهد كما رأيت في منامك؟
تتابع: هاهو محمد استشهد ونحن من بكينا عليه، وبالفعل كان قبره كما وصفه بالضبط.
وكان محمد رغم صغر سنه يحفظ سورا من القرآن الكريم منها الفاتحة والفلق والإخلاص.
تعيش ريم وأسرتها اليوم بين وجعين أولهما إصابتها وثانيها فراق محمد، ولا تزال تذكر كلماته لها ومواقفه معها ومع أمه التي كان يخبئ حذاءها لئلا تتمكن من الخروج لشدة تعلقه بها.
بل إنها تشعر وكأنه يحيط بها من كل جانب، وتتردد في أذنيها ما كان يحب وما لا يحب وماذا يريد أن يفعل أو يلعب.
هي سهام غادرة قذفها المحتل في قلبها الصغير، ستترك فيها ندوبًا غائرة ما بقيت حية.