بقع دماء وبقايا طعام وخبز وملابس أطفال وأغطية، بقيت شاهدةً على مجزرة دمويَّة ارتكبها الاحتلال الإسرائيليُّ بحقِّ عائلات طافش والسِّدودي وأبو توَّهه، بعد استهداف ثلاثة فصول بمدرسة " الشَّيخ جميل " التَّابعة لوكالة غوث وتشغيل اللَّاجئين "أونروا" والَّتي تؤوي مئات العائلات النَّازحة بجوار مجمَّع ناصر الطِّبِّيِّ بمحافظة خان يونس جنوب قطاع غزَّة، نتج عنها استشهاد 14 نازحًا بينهم أطفال ونساء وعدد من الإصابات.
مع دويِّ انفجار في وقت متأخِّر مساء الأحد، لم تستوعب أيَّة العابد وهي تسير داخل الممرِّ الَّذي يقع به الفصل المستهدف ما جرى، مع انتشار الدُّخَّان وبدء اشتعال النِّيران، فحملت أطفالها وذهبت للاحتماء عند والد زوجها أسعد طافش، لتجد أمامها أشلاء ممزَّقة.
استشهد بالاستهداف الحاجِّ أسعد طافش (60 عامًا) وأولاده سامر (27 عامًا) وناصر (22 عامًا) ومحمَّد (17 عامًا) ومجد (16 عامًا) وعزَّ الدِّين (8 أعوام) ونجت زوجته بجروح طفيفة وأصيب ابنها كريم إصابة خطرة، واستشهدت حنين أسعد طافش وزوجها محمود البسِّ وأطفالهما سهيل (4 أعوام) وزيَّن (عامان) .
في الطَّابق الثَّالث، تتأمَّل العابد مكان الاستهداف، تبحث بين أكوام من الملابس المتناثرة عن بعض ذكريات الشُّهداء، تقف بنفس المكان الَّذي كان يعجُّ بالحركة والحياة داخل فصول تتقاسم فيها العائلات النَّازحة المساحة كما تتقاسم لقمة العيش والخبز، ولا زالت لا تستوعب ما جرى.
لم تعد هناك جدران تفصل بين الفصول الثَّلاثة الَّتي كانت تؤوي العائلات، أحدث القصف فتحات بالجدران الَّتي تطلُّ على الشَّارع الخلفيِّ أو على ممرِّ المدرسة، كما أحدث فتحةً في السَّقف المطلِّ على الطَّابق السَّلفيِّ، تجد أمامك خبز لم يتناوله الشُّهداء وامتزج بدمائهم الَّتي تناثرت على أرضيَّة الفصل، وعلى الفرشات، تمزَّقت الملابس واختفت تحت الرَّدم أو احترقت مع النِّيران.
تحاول العابد التماسك وتجميع قواها، يتحرك المشهد الدموي أمامها من جديد وهي تروي لـ "فلسطين أون لاين" قائلة: "حملت أولادي ودخلت لفصل بيت عمي، للاحتماء عندهم فوجدت النار والدخان ينبعث من الفصل نفسه، صدمت ووضعت أولادي عند الجيران، ثم عدت لأجد والد زوجي يلتقط أنفاسه الأخيرة ويرفع إصبع التشهد، وأصبح بلا رأس، ووجدت جدار الفصل يسقط على شقيقة زوجي حنين وأولادها وزوجها، صرت أصرخ على الجيران".
تكمل العابد بحسرة وهي تتقدم بضعة خطوات لمكان وجود الأطفال قبل استشهادهم "جاء كل الجيران وكل واحد كان يحضر دلو ومياه وبدأت المدرسة تتعاون في إطفاء النيران وإخماد الدخان".
تجمع بين مشهدين فصلا بين حياة وموت، الأول لحظة جلوس والدة زوجها مع أولادها وتجمعوا قبل النوم، عندما ألقت عليهم السلام قبل ذهابها لفصلها، والثاني وهي تلقي نظرة الوداع الأخيرة على جثامينهم قبل مواراتهم الثرى.
"حتى الآن لم أستوعب ما جرى، وماذا حدث معنا، توزع أشقاء زوجي الصغار بجوار أمهم وذهبت حنين لمكان نومها مع أطفالها داخل الفصل، نعيش حياة طبيعة، وكنا نفكر قبل القصف بعشر دقائق بإحدى حلوى للأطفال" تقول وهي تمسك بعض الملابس المختلطة بدماء الشهداء، وتتساءل: "ما ذنبهم!؟".
قلب لم ينجُ
سؤال العابد الذي لا إجابة له، في حرب إبادة دموية يشنها الاحتلال على قطاع غزة، لا يحترم فيها حرمة مراكز إيواء أو مستشفيات أو مقابر، هو السؤال ذاته لبيسان السدودي (21 عامًا) خطيبة الشهيد سامر طافش (27 عامًا).
فقبل لحظات من القصف، أمضت بيسان وخطيبهما لحظاتهما الأخيرة بتصفح الهاتف المحمولة ومشاهدة بعض المقاطع المرئية لما يحدث بغزة، وقفا لدقائق في الخارج انتهى اللقاء بعناق قصير، ثم ذهب كل منهما للنوم داخل فصلهما المتلاصقين.
نجت السدودي من القصف، لكن قلبها لم ينجُ من الفقد، قتل الاحتلال فرحتها وخطف خطيبها، واستشهدت أمها بالمجزرة، لتتضاعف أوجاعها وأحزانها بعدما فقدت والدها الذي توفي قبل عدة أشهر بسكتة قلبية داخل المدرسة، لتعيش هي وخواتها الخمس بلا أب وأم، وبدون سند.
"عندما دخلت الفصل، كانت أمي متعبة ومريضة، فعرضت عليها مع أختي، أن نذهب بها لمستشفى ناصر القريب من المدرسة، لكنها أرجأت الأمر للصباح، في حال لم تتحسن حالتها وقبل أن أقبل رأسها حدث الاستهداف ولم أشعر بشيء فوجدت أمي بلا حركة بفعل إصابتها بشظايا الصاروخ وتطاير الجدار الفاصل مع عائلة خطيبي" تبلل الدموع صوت بيسان وتنهمر على وجنتيها وهي تروي لـ "فلسطين أون لاين" وهي تتمنى لو ذهبت أمها معها للمشفى.
عقدت بيسان وسامر خطوبتهما في 25 مايو/ أيار الماضي، وبعد عدة أيام توفي والدها، لتمتزج الفرحة بحسرة الفراق، ثم مأساة فقد خطيبها وأمها التي اجتهدت بعد وفاة زوجها لتوفير كل شيء وتعويض غياب الأب، حملت على كاهلها حملاً ثقيلا بتوفير الأكل والشرب لبناتها.
أما خطيبها فعمل على بسطة لتوفير مصدر دخل، وكان يحاول تكوين نفسه إلى أن تنفرج الأمور ويتزوجا معا، لكن الحرب فرقت الخطيبين وقتلت فرحة "بيسان"، تداههما الدموع "لم يبق لدينا فرحة، ذهبت سهراتنا الحلوة، وجمعاتنا، حياتنا داخل المدرسة التي تأقلمنا عليها رغم المعاناة، كان سامر يحاول بناء نفسه ليعوضني عن فقدان أبي لكنه هو الآخر رحل".
نظرة أخيرة
في وقت كانت بيسان وشقيقاتها يلملمن بعض أغراضهن ويرافقن عمهم الذي حضر لنقلهن معه لوسط قطاع غزة، وهن يلقين نظرة أخيرة على المكان الذي شهد على فرحتهم وحياتهم ولماتهم، كان محمد أبو توهة على الناحية الأخرى من المكان المستهدف يقف على المكان الذي استشهد فيه شقيقه الطفل يوسف أبو توهة (14 عاما) مع ابن شقيقته الطفل آدم الحصري (7 أعوام).
يقول أبو توهة وهو يقف بجواره فرشة مليئة بالدماء لـ "فلسطين أون لاين": "قبل القصف كنت أحاول تجهيز بعض الحلوى، وأضحك مع شقيقي الطفل يوسف، وكان يجلس مع آدم على الجدار الفاصل مع عائلة طافش، فحدث القصف وانتشر الدخان وتطايرت الجدران من كل الاتجاهات، فاستشهد يوسف وآدم ولم يأكلا قطعة الحلوى التي كانا ينتظرانها".
كان يوسف مريضًا بالقلب ينتظر حوالة علاجية لسد ثقب بالقلب، "كنا نخاف عليه من أي شيء" والكلام لشقيقه ليستشهد بقلب مفتوح، أما آدم فلم يعرف طفولة إلا اللعب في مركز إيواء مكتظ، يعيش الطفولة بأنصاف حياة، يسمع صوت القصف والإسعافات التي لا تتوقف عن نقل الشهداء والمصابين لمستشفى ناصر الطبي القريبة من المدرسة.