قائمة الموقع

الفرص الحضاريَّة في طوفان الأقصى... قاموس المقاومة (56)

2024-12-12T21:04:00+02:00
الفرص الحضاريَّة في "طوفان الأقصى"... قاموس المقاومة (56)

كان ولا يزال طوفان الأقصى بحق يشكل فرصة حضارية كبرى؛ في أن يتحول نهج الطوفان من غزة إلى طوفان الأمة، ومن ثم فإن تحليل مثل هذا الحدث يحتاج إلى تحليل مناسب له ومن مثل ذلك التحليل الحضاري، وهو الذي يرى الموضوع من مستوياته الكلية، ومن ثم يكون من المهم استعراض الفرص التي يقدمها هذا الطوفان.

أولا: الفرصة الحضارية والمقاومة الحضارية الشاملة

قدم طوفان الأقصى نموذجا يحتذى لبناء رؤية عقدية متكاملة تتمسك بالمقاومة، وتذود عن المقدسات وتحميها، وترابط عن حياضها، وتراكم فعل الإحياء والتجديد، وكذلك الفرصة القيمية والدعوة لقيم الإسلام مقارنة بتآكل قيم الحضارة الغربية على الأرض وفي الميدان؛ مثل سلوك المقاومين منارة على ما تحمله الحضارة الإسلامية من قيم سامية، وأصول حضارية رفيعة قيمة، في مقابل ما يرتكبه جنود الكيان الصهيوني من موبقات سواء في التعذيب أو القتل أو انتهاك حرمات البيوت والمساجد، دون رادع من أخلاق أو قيم أو قانون أو أي معيار إنساني.

وهي فرصة للنموذج الحضاري الإسلامي؛ فقد مَثَّل طوفان الأقصى فرصة للنموذج الحضاري المتكامل للرؤية الإسلامية، وكيف أن المسلم فاعل وقادر على أن يواجه الحضارة الغربية بكل تقدمها وأن يهزمها، وأن يصمد في وجهها لشهور عديدة رغم الحصار والإمعان في القتل والتدمير.

ثانيا: الفرصة السياسية والإستراتيجية

أثبت طوفان الأقصى نظرية المستشار طارق البشري: "الوعاء الجغرافي"، التي ضمنها مقالته الضافية "عن القدس وفلسطين (وعائها الجغرافي)" أن فلسطين هي وعاء القدس وحاملتها، بل إن القدس هي هوية فلسطين، وهي من أعطاها الغالب الأعم من صبغتها وأهميتها. ليست القدس مدينة في وطن هو فلسطين، ولكن فلسطين وطن في مدينة هي القدس، كما كان من الإنجازات على المستويات المحلية والإقليمية والدولية التي حققها الطوفان سواء يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أو ما لحقها من صمود تاريخي نبراسا على ما امتلكه الطوفان من قيادة ومقاومة وشعب يؤمن بذاته ووطنه وهُويته، باذلا كل غالٍ ونفيس في سبيل حمايته والدفاع عنه.

ورفع طوفان الأقصى القضية الفلسطينية لمستوى غير مسبوق عالميا، وفتح الباب لتجسيد الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها حقه في دولته على أرضه وترابه، وهو ما فشلت فيه كل الجهود الدبلوماسية والسياسية التي كانت منزوعة من عوامل القوة. لقد وجّه الطوفان ضربة لقيمة الكيان الاستراتيجية كشرطي للمنطقة، وأفقده ميزة الردع التي كان يتباهى بها، وها هو الآن يفقد الرأي العام العالمي، كما كشف طوفان الأقصى جريمة التطبيع، ومحاولة استرضاء إسرائيل التي تقوم بها العديد من النظم العربية والإسلامية، ومثَّل فرصة لإدانة ظاهرة "التصهين" وتحديد طبيعة الظاهرة وكشفها للرأي العام.

ثالثا: الفرصة التاريخية والخطاب الكوني

فضح الطوفان كل الدعاية السوداء التي كانت تنال من الفلسطينيين سواء باتهامهم بأنهم فرطوا في أرضهم، أو أنهم سعوا إلى هجرها، فعلى العكس من ذلك ثبت تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه ووطنه حتى على حساب حياته وكل ما يملك (إعادة تشكيل الذاكرة)، إضافة إلى تأسيس خطاب كوني جديد بكل درجاته؛ حيث يتوازى مع المجهود العسكري والحربي الذي تقدمه المقاومة؛ مجهودٌ إعلاميٌّ مقدر استطاع أن يرسم ويبلور هذه الجهود، ويقدمها للعالم لتمثل إذلالا للكيان الصهيوني، ويسجل إنجازات المقاومة. أما عن بناء رأي عام عالمي وإنساني وكوني، فهناك حالة واسعة من التضامن مع الشعب الفلسطيني؛ جراء ما يقع عليه من إجرام، لقد كانت هناك حالة من الرمزية وإعلاء القيم التي تبناها الطوفان جذبت الكثير من المؤيدين ممن صنعوا رأيا عالميا وإنسانيا وفطريا.

رابعا: بعد أن تضع الحرب أوزارها؛ فرصة عمران غزة ورفع الحصار عنها؛ والمصالحة الفلسطينية:

تلوح أمام الشعوب المسلمة فرصة لأن تسهم بكل ما يمكنها في معركة المقاومة، وعلى أصحاب الأموال والأعمال ممن يتبنون القضية الفلسطينية في دواخلهم، أن يبادروا -في حدود إمكاناتهم- بالإسهام في مشروعات داعمة لغزة، والوعي بتمكين مسالك الأمة المختلفة في المقاومة الحضارية، كما للشعوب قدم الطوفان فرصة للسلطة الفلسطينية في إعادة البناء والتفعيل واستعادة ولايتها في شطرَي فلسطين: المحتل والمحاصَر، في مواجهة "إسرائيل"، وليس برضاها، بعيدا عن جدل "المقاصة" وانتظارها، ووفر لها الفرصة لقطع الطريق على ما يحاك لغزة، وما وراءها، وأبعد منها: القضية الفلسطينية برمتها.

ورغم التراخي الشديد من السلطة فإن الفرصة لا تزال قائمة، اللحظة الفلسطينية تاريخية بامتياز، وهي تتطلب قيادات تاريخية ترقى إلى مستواها، وتضع نصب أعينها حقيقة، مفادها أن شعب فلسطين يخوض معركة وجودية؛ معركة أن يكون أو لا يكون، وقد آن أوان خوضها بالجرأة والبسالة نفسيهما، اللتين طرق بهما المقاومون جدران الخزان، فجر السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.

خامسا: فرص الأمة في النهوض والبناء والمراجعة

قدم الطوفان نموذجا في إدارة المعارك الكلية في الأمة بانضباط مشهود، وقد مثل ذلك علامة فارقة على قدرته على امتلاك أدواته دون أن يفقد التوازن بين المعارك المتنوعة، سواء معركة الذاكرة، أو معركة المعنى، أو معركة المغزى، أو معركة أصول القدوة، كذلك اكتسب طوفان الأقصى زخما كبيرا بين الشباب، ودلت مظاهرات الجامعات الأمريكية على ارتفاع الوعي بالقضية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني، في مواجهة الاحتلال الاستيطاني "الكولونيالي" الإسرائيلي المدعوم من الغرب.

وكشف بما لا يدع مجالا للشك أن هناك رابطة وثيقة بين الاستبداد والاحتلال، وأن الخلاص من الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي سيكون مقدمة للخلاص من الاستبداد المهيمن على معظم دول المنطقة. ومن هنا فإننا أمام فرصة تاريخية للتخلي عن الاستبداد والظلم والطغيان، كما يعد الطوفان -أيضا- فرصة مهمة للحركة الإسلامية، فقد مثل الطوفان ما يمكن أن يكون إحياء لهذه القوى ودورها في الحياة السياسية في المنطقة بعدما تعرضت له منذ الربيع العربي.

فبغض النظر عن وجود قوى مقاومة غير إسلامية في غزة، فإن قيادة هذه الحركات وأبرز المساهمين فيها هي القوى الإسلامية، ومن ثم فإن الطوفان يعيد تقديم قوى الإسلام السياسي للمواطن العربي، ويؤكد على الدور المهم الذي تمثله هذه الحركات، بيد أنه في الوقت نفسه فإن هذه الفرصة هي تحدٍّ في ذاتها خاصة في ظل المحاولات المكثفة من بعض الدول لإفشال الطوفان.

من الأهمية بمكان أن يسهم أبناء الأمة الإسلامية في إنشاء أوقاف لعمران غزة "مؤسسات الأمة" تكون قاعدة لعمرانها تنشغل بالإنسان، وأن تكون هذه الأوقاف من أدوات المقاومة والتحرير، وألا تقتصر الأوقاف على بيت المقدس والأقصى فقط، ولكن كذلك المقاومة تستأهل إنشاء الأوقاف وحبسها على هؤلاء المجاهدين، وأعمالهم التي تحرّر الأمة قبل أن تحرر مقدساتها في القدس وفلسطين، كما قدم الطوفان فرصة كبيرة جدا للمؤسسة العلمائية لتراكم على النتائج التي حققها الطوفان، في تقديم رؤى نهضوية قادرة على أن تترك بصمتها على المشروع الإسلامي.

وقد كشفت أحداث السابع من أكتوبر (طوفان الأقصى) عن فرصة مهمة لنقد الأمة في أحوالها وضعف فاعليتها، وعدم تأسيس مشروع نهضوي جامع لها، كما أن الطوفان يشكل أهم حلقة في تأسيس معنى "طريق النهوض"، وأهمية كيان المقاومة في مكنون الأمة وفاعليتها، مبينا أن الأمة أمام خيارَين؛ أولهما خيار "أمة المقاومة والعزة" والثاني خيار "الأمة الغثائية وعقلية الوهن"، وعليها أن تختار في ضوء تلك الحركة الإنسانية العالمية والمطالبة الكونية بالحرية والتحرير في مواجهة الاحتلال، والعدوان، والاستيطان، والطغيان.

أعاد الطوفان بعث حالة النهوض في الأمة، وأشعل جذوة نهوضها ليس بين أبنائها فحسب، بل أدرك العالم أجمع أن هذه الأمة لديها من الإمكانات والممكنات ما يجعلها قادرة على أن تؤثر في مسار الإنسانية ككل. ولعل الاستجابات المتنوعة من أركان العالم المختلفة ليس فقط على مستوى الدول والمؤسسات، وإنما حتى على مستوى الأفراد سواء بالمظاهرات، أو الاهتمام بالدين الإسلامي، تجعلنا نفكر في قيمة ومكانة الطوفان وما تسببت فيه من إحياء للقيم الإسلامية الحضارية، وأن نؤمن بأن العمل في الطوفان وللطوفان هو عمل أمة، وبناء في مسار الحضارة، وتأسيس لنهوض وانبعاث حضاري طال انتظاره.

ولا يسعنا إلا القول أن طوفان الأقصى هو نقطة البداية لمشروع نهوض هذه الأمة من جديد، إلا أن هذه البداية تحتاج لبناء وعي وتأسيس سعي حضاري متكامل، يلتمس الوقوف على التحديات ومسار الاستجابات، وإدراك السياقات، وصناعة الفرص والقدرات، وبناء الاستراتيجيات، واستشراف المستقبل والمآلات.

ومن الجدير بالذكر ونحن نكتب هذا المقال كانت وقائع تدور في تحرير سوريا من الطاغية، وربما هي شرارة الأمة الأولى لطوفان الأقصى حينما يتحول الى طوفان الأمة. ولعلنا نلحق هذا المقال بآخر حول يوم من أيام الله؛ "يوم تحرير سوريا العظيم"

اخبار ذات صلة