على مسافة لا تبعد سوى 600 مترٍ عن وادي غزة حيث تتمركز قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي بما يعرف باسم محور "نيتساريم"، يفرد الصياد أحمد أبو عجمي غزله داخل البحر إضافة للعديد من الصيادين الذين يأتون لشاطئ منطقة "الزوايدة" وسط قطاع غزة، بحثًا عن الرزق ولقمة عيشٍ مغمسة بالمعاناة والتعب والإرهاق والخطر الداهم.
في الأفق يقف طرادٌ "إسرائيلي" كوحشٍ يراقب كل حركة، ويطلق الرصاص على قوارب الصيادين بين فينة وأخرى، لإرهابهم ومنعهم من العمل في مرفأ "الزوايدة" الذي اعتادوا الصيد فيه منذ سنوات طويلة، اقتحم عالمهم بين الأسماك والبحر فجأة، وصادر حريتهم وحياتهم، بعد حصار بحري خانق مارسه طيلة 17 عامًا سابقة.
ولا يتوقف الخطر عند الزورق "الإسرائيلي"، فالطائرات المسيّرة تحلق فوق الصيادين، وتصعد الدبابات بين فترة وأخرى على تبة مرتفعة قريبة من المرفأ وتطلق النار بعشوائية لتفريغ الشاطئ من المصطافين والصيادين على حد سواء محدثة إصابات أو شهداء، ولا تنتهي عند موج البحر الهائج والرياح القوية وأمطار الشتاء، فيعملون وهم مصابون بالأمراض الصدرية كـ "الأنفلونزا والرشح" التي لا تفارقهم، ورغم ذلك يتشبثون بالمهنة.
وتدفع الظروف الصعبة وقلة فرص العمل في ظل حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة الصيادين للمخاطرة بأنفسهم للحصول على لقمة عيش مغمسة بالشقاء والمعاناة والمخاطرة التي دفع خلالها عشرات الصيادين حياتهم جراء اعتداءات الاحتلال المتواصلة على الصيادين، وتحدي قرار الاحتلال بمنع الصيد.
في ساعة قريبة من الواحدة ظهرًا، ينهمك الريس أحمد أبو عجمي بملابسه المبللة في محاولة طي شبكة صيد تسمى "جرافة" يزيد طولها عن 150 مترًا، ويساعده 12 عامل صيد بحثًا عن الرزق وإعالة أسرهم، إلا أن الصندوق البلاستيكي المخصص لتعبئة أسماك امتلأ بكمية ضئيلة من الأسماك.
يوزع "الريس" العمل بين العاملين، بعضهم كان يشد حبال الشباك الطويلة، وأخرون انشغلوا بطيها، أو بتنظيف الأوساخ العالقة لم تكن بعيدة عن نظر الزورق الإسرائيلي.
عوض جميل
بعد طي الشباك، قرر الريس وعمال الصيد إلقاء الغزل الثقيل داخل البحر للمرة الرابعة بواسطة حسكة مجداف "بحثا عن العوض" بحيث تبحر من نقطة من الشاطئ لمسافة قريبة داخل البحر وتبدأ بنشر الغزل ثم الالتفاف للوصول إلى نقطة بجهة أخرى من الشاطئ.
بعد ذلك يبدأ مجموعة عمال بشد حبلين من كلا النقطتين حتى تضيق مسافة الغزل عند الشاطئ ويتم صيد الأسماك العالقة بالشباك، تحتاج العملية إلى جهد بدني كبير أثناء شد الحبال، والنزول بالمياه الباردة، والصبر لمدة ساعة بين نشر الغزل وسحبها.
كغيره من الصيادين يفضل أبو عجمي "رمي نفسه إلى الموت" كما يصف، وتحمل المخاطرة والمشقة لأجل جلب قوت أطفاله على أن يبقى أسيرا لظروف الحرب، مستعينا بحسكة المجداف التي أصبحت وسيلة الدخل الوحيدة للصيادين.
ويملك حسكة "مجداف" وهذه النوع هو من تبقى من قوارب الصيادين التي دمرها الاحتلال وباتت "كنزًا" لمن يملكها، إذ تضاعف سعرها من 4 آلاف شيقل إلى 10 آلاف شيقل.
ونتيجة منع إدخال مواد الخام تضاعفت أسعار مادة الفيبر جلاس اللازمة لصيانة القوارب وحسكة المجداف التي يستخدمها مئات الصيادين حاليا، فحسب أبو عجمي، بلغ سعر كيلو الفيبر 250 شيقلا حاليًا أي بأضعاف سعره، كما تضاعف أسعار شبكة الغزل.
12 حلمًا
يقول أبو عجمي لـ "فلسطين أون لاين": "نحن هنا 12 بحارًا كل واحد فينا يحمل آمال عائلة نعمل من الصباح حتى آخر النهار، وبالكاد يحصل كل واحد فينا على 30 أو 50 شيكلًا، وما يدفعنا للعمل هنا وبهذه المخاطرة هي الظروف وصعوبة العمل، رغم تضييق الاحتلال وملاحقته لنا وقتلنا، فكل يوم هنا يحدث إطلاق نار من الزوارق مما يؤدي لاستشهاد صيادين".
من جديد يتجه نظره نحو التبة التي اعتلتها الدبابة "الإسرائيلية" قبل يومين، وأطلقت النار تجاه الصيادين في لحظة "تغير شكل المكان، وسادت حالة من الفوضى والذعر بين الصيادين والمصطافين والنازحين، ما جعلنا نترك العمل ونغادر، وهذا مشهد متكرر نعيشه بشكل يومي" يقول.
ويعيش الصيادون حياة عمل صعبة، يشرح بصوته المتعب "لم يعد هناك مهنة صيد بعد تدمير الاحتلال لقوارب الصيد (لنش)، ولم يبقَ سوى حسكة المجداف التي نستخدمها حاليا للصيد. نضطر للنزول بسبب غلاء المعيشة وصعوبة الحياة بعد أكثر عام من الحرب والمخاطرة لجلب لقمة العيش".
"البحر انطارة مش قطارة" من هذا المنطلق يعمل أبو عجمي، فأحيانا لا يتجاوز حصيلة الصيد عن كيلو جرام كما حدث اليوم أو يصل إلى 3كغم وأحيانا أقل أو يصل إلى 10 كغم، وفي أفضل الأحوال يمتلئ الصندوق البلاستيكي وهذا هو أفضل صيد وفير خلال الحرب، لكنه ليس بالوضع الطبيعي قبل الحرب، فمعظم هؤلاء كانوا يبحرون على وقوارب "جر" تصل لعدة أميال داخل البحر.
وفي هذا الوقت من الموسم يصطاد أبو عجمي وغيره من الصيادين، أنواعا معينة من الأسماك التي تصل الشاطئ مثل "الغزلان، البوري، وقراص، وسمك البط".
وهذه الأصناف من الصيد لا تدخل بيت أبو عجمي، يعلق بسخرية ترسمها ملامحه قائلا: "لا بناكله ولا بنقدر نشتريه".
وكانت الأسواق تمتلئ بالأسماك في موسم الصيد، وبسبب حرمان الاحتلال وملاحقة الصيادين وتدمير قواربهم ومنعهم من العمل، بات العمل على مسافة قريبة من الشاطئ هو خيار الصيادين الوحيد للبحث عن الرزق، بحيث يصطادون كميات قليلة يبلغ سعر الكيلو الواحد منها 100- 150 شيكلا.
ولم يترك الاحتلال الصيادين يعملون بحرية على بعد مئات الأمتار على الشاطئ، ففي كثير من الأحيان يتعرضون للاستهداف المباشر لإجبارهم على مغادرة البحر، ورغم ذلك يتحدى الصيادون ذلك، يمتزج صوت أبو عجمي بنبرة تحدي "هذا بحرنا، ولا خيار لنا الآن، إلى العمل بين الموت للحصول على الرزق، فنحن لا نستطيع البقاء أسرى للفقر ونرى أطفالنا يتضورون جوعا".
وبحسب معطيات صادرة عن نقابة الصيادين، دمر الاحتلال في حربه نحو 1050 قارباً بمحرك بما يشمل 96 من اللانشات و900 قارب بدون محرك، ومعظم غرف الصيادين.
ويعمل "الريس" الذي يسكن بمخيم النصيرات في الصيد منذ عام 2006، يتجه بنظره نحو الضفة الأخرى من الوادي ويسرق الشوق مشاهد من سنوات عمل أمضاها هناك، مستذكرً: "كنا نجرف عند الوادي، ودائمًا كنا نحصل على صيدٍ وفير، نتحرك بحرية، وصعب هذا الشعور أن تعيش بمعزل عن حريتك ومحروما منها".
قبل أسبوعين اسُتشهد صيادان يعملان على قارب، لم يكن الحدث بعيدًا عن نظر أبو عجمي "البحارة يموتون لأجل لقمة العيش، أطلق الزورق النار على صيادين واستشهدا حتى أن جثة أحدهم لا زالت داخل المياه".
قبل الحرب كان سعر غزل شباك الصيد يبلغ 1500 شيقل أما اليوم فتضاعف سعره إلى 8 آلاف شيكل، كما أن "لفة" الخيوط كانت تبلغ 7 شواكل لترتفع إلى 120 شيكلًا، وكلها تضاعف معاناة الصيادين وتكلفة العمل حيث تكثر الثقوب بالشباك نتيجة الصخور أو بالتعثر بنفايات يلقيها بعض النازحين داخل مياه البحر وتعلق بالشباك وتؤدي لتمزقها.
ويبلغ معدل إنتاج قطاع غزة من الأسماك 5100 طن سنوياً، وكان يسوق قبل الحرب إلى الضفة الغربية (100) طن سنويا من الأسماك الاقتصادية، سواء المصطادة من البحر أو المنتجة داخل المزارع، مثل الدنيس الذي يحتل ( 60%) من التسويق، واللوكس والجمبري.