السابع عشر من أكتوبر لم يكن يوميًا عاديًا كما كان متوقعًا منذ بداية حرب الإبادة علي قطاع غزة، ففي الساعة الواحدة والنصف من ذلك اليوم جهزت سندس نفسها للذهاب إلي بيتها لأجل جلب بعض الاحتياجات لطفليها وشقيقتها ياسمين، وقبل أن تغادر ودعت كل من فيه على غير العادة، وحملتها الأخيرة وصية ألا تتأخر عليها.
سندس المغاري البالغة من العمر 25عامًا، من سكان مخيم البريج، عاشت ألوان من العذاب والوجع، ولا تزال، ففقدت ما يقارب ٣٥ شخصًا من أقاربها ومن أعزهم علي قلبها عمتها وهي أيضًا والدة زوجها، وشقيقتها ياسمين، وصغيرها أنس الذي لم يتجاوز عمره ثلاث سنوات.
تعود بذاكراتها إلى بداية الحرب اللعينة التي أجبرتها علي ترك بيتها الصغير برفقة عائلتها المكونة من ٤ أشخاص، والمكوث عند أهل زوجها للاستئناس بهم، واعتقادها وزوجها أنه أكثر أمانًا، ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان.
تقول المغاري: "رغم فظاعة الحرب وشدتها إلا أني عشت أيامًا جميلة مع عائلة زوجي، فقضيت معهم أوقاتًا ممتعة ما بين المزاح واحتضان مخاوفي، وأوكلوا إلي مهمة إعداد الطعام كونهم يحبون نفسي في الطبخ".
وفي احدي المرات، بعد أن انتهت من طهي الأرز كانت تقف بجوارها والدة زوجها، فقالت لها وهي تسكب فيه: "مش عارفة ليش حاسة حالي طابخة رز لعزا أو فرح"، صمتت عمتها ودب الخوف في قلبها.
وتضيف المغاري: "في ذلك اليوم المشؤوم أردت الذهاب إلى بيتي الذي لا يبعد كثيرًا عن بيت دار عمي، ومع ذلك أخبرت كل من في البيت بأني خارجة، وسلمت على الصغير والكبير، وأصرت ابنتي نور التي تبلغ من العمر٥ سنوات أن ترافقني، ورغم رفضي للفكرة خوفًا عليها إلا أني وافقت بعد إلحاحها".
بعد مرور عشر دقائق على خروجها ووصولها لبيتها، شعرت كأن زلزال ضرب المنطقة لم تصدق عندما أفاقت من صدمتها لقوة الانفجار أنها لا تزال عل قيد الحياة، هرعت بسرعة إلى النافذة لتتفاجأ أن بيت العائلة ضمن المنطقة المستهدفة.
وتتابع حديثها بعد أن ابتلعت ريقها: "أصبت بهلوسة، وصدمة وفقدان الوعي كنت اصرخ بأعلى صوتي، بدي ابني وأختي، أمسكوا بي الجيران وكنت أطلب منهم أن يتركوني لأنقذهم".
ففي هذه الضربة كان الاحتلال "الإسرائيلي" قد استهدف ٧ مباني سكنية دفعة واحدة، مربع سكني بأكمله أدى إلى استشهاد ١٤٠ شخصًا من بينهم ٣٥ شهيد من عائلة المغاري وعدد من الجرحى.
رفيقة الدّرب
واستكملت المغاري حديثها: "شقيقتي ياسمين أقل ما يمكن وصفها أنها رفيقة الدرب، فهي تصغرني بعامين، خازنة أسراري، ورفيقتي في مختلف مراحلي الحياتية، في المدرسة والجامعة، ولحقت بي بعد زواجي لتكون سلفة لي، فكانت تربطني بها علاقة قوية، وكأننا توأم نرتدي نفس الثياب والألوان وكان من حولنا يلقوبنا ب "ريا وسكينة".
تستذكر أنها كلما أخبرت ياسمين بأنها تريد العودة إلى منزلها لعدم تحملها ضجيج الأطفال تبكي الأخيرة وتطلب منها ألا تتركها، موضحة أن الحرب أصابتها بفوبيا لدرجة أنها كانت تقول لأقاربها "إلي الله غضبان عليه بخليه يعيش الحرب مع ياسمين".
وعندما كانت تجلس معها لتبدد مخاوفها كانت تخبرها أنها تخاف من أن تبقي تحت الركام دون أن يتمكن أحد من الوصول إليها.
في أحد الأيام أخبرت سندس ياسمين بحلم رأته في الليلة التي سبقت الحادثة بأنها رأت شقيقة زوجها قد جاءت لزيارة بيت أهلها، وطلب منها والدها العودة إلي بيتها خوفًا من القصف، قاطعتها حينها سندس وطلبت منها ألا تكمل حديثها.
وفي يوم الحادثة جاءت شقيقة زوجها وطلب منها والدها العودة إلي بيتها فقالت ياسمين: "هادا شفتو في الحلم يا سندس"، ورغم أنها رفضت أن تكمل لها الحلم خوفًا من حدوثه لكن سندس شاهدته على أرض الواقع.
أما صغيري أنس الذي كان يبدع ويبتكر في اختراع أسماء الدلع الخاصة بي فيناديها تارة ماما وسندوسة وسوسو وغيرها تقول كنت أشعر أنه أكبر من عمره "بشطارته".
تقول المغاري: "قد كان فاكهة البيت بذكائه وخفة دمه، يزداد فقداني له يوما تلو الآخر حتي شقيقته لا تنفك من السؤال والحديث عنه رغم مرور أكثر من عام علي استشهاده".
وبعد مرور شهر علي الحادثة تعرضت المغاري للإصابة هي زوجها وابنتها فأصبحت بكسر في الحوض واستقرت شظية في قدمها بوزن ٣٥٠ جرام، وبعد مرور شهرين قرر الأطباء إزالتها بعملية جراحية تمت بدون مخدر بنج لعدم توفر فرأت الموت بعينيها من شدة الوجع.