انتهت رحلة الطفل نافذ أحمد أبو حمادة للحصول على كيس طحين بالشهادة ليلتحق بوالديه وشقيقيه الذين ارتقوا بقصف إسرائيلي في الشهر الأول للحرب على غزة.
تروي جدته أم فادي حمدان (٥٧ عاما) كيف فقدت حفيدها وهي التي لم تخمد آلامها على فقدانها ابنتها وزوجها وحفيديها، تقول: ذهبت ومعي حفيدي نافذ حمادة ١٠ سنوات، من مكان نزوحنا مقابل سجن أصداء الى منطقة الفخاري قرب مستشفى الأوروبي لشراء كيس طحين.
تضيف لفلسطين أون لاين: عندما تمكنت من الظفر بكيس الدقيق أصابت شظايا قذيفة نافذ بين عينيه وفي رأسه فاستشهد على الفور.
تتابع: نقلنا حفيدي للمستشفى، ومن هناك عدت دون نافذ ودون كيس الطحين وحتى اليوم لم نتمكن من توفير الطحين.
الجدة أم فادي من سكان شمال غزة نزحت إلى خان يونس برفقة زوجها وثلاثة من أحفادها الأطفال بعد استشهاد والديهم واثنين من أشقائهم في نوفمبر 2023.
أوجاع مضاعفة
لم تتمالك نفسها واغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول: استشهاد نافذ ضاعف أوجاعي على فراق أمه وأبيه واخوته الاثنين في قصف تعرضت له العائلة شمال القطاع في ٦ نوفمبر ٢٠٢٣.
إلى اليوم أبكي حزنا وألما على بنتي أماني (أم نافذ) وسأبكيها ماحييت، فكيف أتركها دون وداع، تقول أم فادي وهي تستذكر مصابها في ابنتها، وتتابع: لا أعرف هل دفنت أم لا. هذه غصة في القلب لا تزول مع تقادم الأيام والسنين.. جاء استشهاد ابن بنتي ليزيد الألم والوجع بين كل محبيه وكل من عرفه.
تعيش الجدة أم فادي في مدرسة الحناوي مقابل سجن أصداء غربي خان يونس في ظروف قاسية.
تقول: نعيش ظلم المجتمع الدولي وكلامه الفارغ عن حق الحياة وحق السكن وإلى جانب الظلم الكبير من الاحتلال.
برحيل نافذ شهيدا، بقي له شقيقان؛ طفل وطفلة في حضانة جدته؛ هما سجى ٩ سنوات ومحمد ١٥ سنة.. يعيشان ظروفا قاسية فوق فقد الوالدين والأشقاء فقدوا الطعام والكساء وكل شيء، لم يقدم لهم أحد أي شيء منذ الفقدان الكبير لعائلتهم سوى سيدة تبرعت لهم ب٣٠٠ شيقل.
أين مؤسسات الطفولة؟
وتساءلت: أين مؤسسات الطفولة وأين حقوق الطفل وأين مؤسسات رعاية الأيتام وأين مؤسسات تقديم الرعاية النفسية والاجتماعية.
وقالت أم فادي: للأسف سمعنا كلام كثير طوال سنوات لكننا في الواقع لا نلمس شيئا حقيقيا من هذا العالم. كل التدخلات النفسية والاجتماعية لن تعالج جزء يسير مما خلفه فقدان الأحبة ومما عاشناه من أهوال القصف، لكن لا بد أن نطرق جدار الخزان، تقول أم فادي.
وثق معاناته واستشهد
قبل يوم واحد من استشهاده كان الطفل نافذ أدلى بشهادة نشرها المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، روى فيها جانباً من معاناته اليومية مع التهجير والجوع، وعبر فيها عن حنينه لوالديه وشقيقيه الطفلين الذين قتلتهم قوات الاحتلال قبل نحو عام شمال قطاع غزة.
نافذ، ابن العشر سنوات، وجد نفسه بعد شهر واحد من بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يتيمًا بلا والدين، مع فقد شقيقين طفلين، ليبقى مع شقيقيه الطفلين المتبقيين رفقة جديه، اللذان اضطرا للنزوح قسرًا برفقة أحفادهم إلى جنوب قطاع غزة مع اشتداد وتيرة القصف الإسرائيلي على شمال قطاع غزة.
لكن القصف والجوع والمرض بقي يطاردهم من مكان إلى آخر، حتى خطف القصف الإسرائيلي الطفل نافذ ليلحق بوالديه وشقيقيه؛ ليبقي جرح الفقد غائرًا لدى الأسرة التي تنتظر على قائمة القلق والخوف والمستقبل المجهول.
في إفادته يقول نافذ: كنت أسكن بالقرب من أبراج القرية البدوية في محافظة شمال غزة. كنت في منزلي صباح يوم 7 أكتوبر 2023، أستعد للذهاب لمدرستي، حيث أدرس في الصف الرابع الابتدائي في مدرسة ذكور عزبة بيت حانون الابتدائية، كانت الساعة السادسة والنصف صباحاً عندما بدأت أسمع أصوات انفجارات في كل مكان وحينها منعتني أمي (أماني نافذ خضر أبو حمادة، 34 عاماً) من الخروج من المنزل أنا وإخوتي محمد، 16 عاما، وعمر، 13 عاما، وزياد، 12 عاماً، ومكثنا في المنزل حتى ساعات الظهر،” هكذا بدأ الطفل الراحل حكايته من بدايتها.
قررت أسرة نافذ الخروج من منزلها، ظهر ذلك اليوم، بسبب اشتداد القصف الإسرائيلي وسقوط بعض القذائف بالقرب من منزلهم. يتذكر ما حدث في ذلك اليوم: “توجهنا نحو بيت جدي والد أمي نافذ خضر أحمد حمدان، 59 عاما، الواقع بالقرب من مستشفى بيت حانون شمال غزة. مكثنا يومين فقط ومع ازدياد القصف خرجنا من منزل جدي تحت القصف الساعة السابعة صباح 9 أكتوبر 2023، وتوجهنا نحو مدرسة حفصة للبنات بمنطقة الفالوجا غرب مخيم جباليا، وهناك حصلنا على فصل (غرفة للإيواء) بصعوبة كبيرة، وكان عدد النازحين كبيرًا في المدرسة، ولم يكن لدينا أي أغطية أو فراش".
أمضت الأسرة يومها الأول بصعوبة في المدرسة دون أي مقومات، وفي اليوم التالي ذهب شقيقا نافذ (محمد، 16عاماً وعمر، 13 عاماً) إلى منزلهم واستطاعا جلب بعض الفراش والأغطية من المنزل ولكن لم تكن تكفي الجميع.
منذ تلك اللحظات بدأت معاناة نافذ وأشقائه الأطفال، الذين بدلا من الدراسة وحمل حقائبهم المدرسية، بات عليهم مسؤوليات يومية، يقول: “كنت كل صباح أذهب مع إخوتي للحصول على المياه الصالحة للشرب، ومحاولة الحصول على بعض الحطب لإشعال النار للطهي بها، وكنت أمشي مسافات طويلة للحصول على ذلك".
بعد مرور فترة من المعاناة على ذلك الحال، وتحت وطأة البرد الشديد وعدم توفر أغطية كافية، مع برودة الأجواء، قررت والدته الذهاب لمنزلهم برفقة والده، 40 عاماً، الذي يعاني من اضطرابات نفسية، للحصول على المزيد من الاغطية وغيرها من الاحتياجات اللازمة.
هكذا قتلوا والديّ وشقيقيّ
يتذكر الطفل نافذ بأسى، ذهاب والدته ووالده وشقيقيه عمر وزياد، الساعة التاسعة صباح يوم 6 نوفمبر 2023، إلى منزلهم الذي اضطروا لمغادرته قسرًا. مضت ساعات ولم تعد الأم ولا الأب ولا الشقيقان. وسرعان ما جاء الخبر المؤلم، قوات الاحتلال استهدفتهم عند وصولهم المنزل وقتلتهم هناك.
وقع النبأ على الصغير نافذ كان مفجعًا وصادمًا، فقد كانت أمه كل حياته، ووجد نفسه في المدرسة بدون والديه وشقيقيه الراحلين، ومكث مع جده وجدته، وشقيقيه: محمد، 16 عاما، وسجي، 8 أعوام، حتى 18 نوفمبر 2023، عندما استهدفت قوات الاحتلال المدرسة بعدد من القذائف الدخانية.
يقول نافذ: “لم نستطع الخروج من المدرسة ذلك اليوم بسبب شدة القصف في محيط المدرسة وسقوط بعض القذائف الدخانية داخل المدرسة. وفي اليوم التالي، قرر جدي وجدتي الخروج من المدرسة والنزوح إلى جنوب قطاع غزة، فخرجنا من المدرسة الساعة السادسة والنصف صباحاً مشياً على الأقدام مع عدد من النازحين الذين كانوا يتواجدون في المدرسة.”
النزوح إلى الجنوب
توجه الجدان وحفيداهما مع نازحين آخرين مشيًا على الأقدام إلى حاجز نتساريم الذي تقيمه قوات الاحتلال على طريق صلاح الدين وتفتش خلاله النازحين إلى جنوب القطاع. يقول الطفل: “وصلنا الحاجز الساعة التاسعة صباحاً. كان هناك عدد من النازحين يقفون أمام الحاجز وكانت هناك دبابة إسرائيلية تقف أمام الحاجز ويقف عليها عدد من الجنود، وكان هناك بعض الجنود يطلقون بعض الطلقات لإخافة النازحين. وبدأ الجنود بالمناداة على النازحين للدخول للحاجز وبالفعل بدأوا بالدخول. استمر وقوفنا حتى وصل دورنا وعبرنا الحاجز، وكان هناك عدد من الجنود يقفون على تلة رملية، يوجهون أسلحتهم نحو النازحين الذين يعبرون الحاجز، وكان هناك جندي ينادي عبر مكبر الصوت على النازحين وكان يأمر البعض منهم ترك ما يحمل والتوجه نحوه".
بعد عبور الحاجز توجه الجدان والحفيدان إلى مدينة رفح، وهناك نصبوا خيمة في حي تل السلطان بالقرب من بركسات الوكالة ومكثوا 6 أشهر، كانت حافلة بالمعاناة والخوف والقصف والحنين إلى الشهداء الراحلين.
مسؤوليات وأعباء
فرض النزوح والظروف القاسية أعباءً على نافذ وشقيقه محمد. يقول نافذ: “كنت أساعد أخي محمد بالذهاب للتكية والوقوف بطابور تعبئة المياه الصالحة للشرب. واضطر أخي محمد للعمل مع بائع خضار بالقرب من بركسات الوكالة ليساعدنا ويساعد جدي وجدتي في الحصول على ما نحتاج إليه.”
ويضيف: “كنت أذهب منذ الصباح للحصول على الحطب لإشعال النار، وأساعد جدي وجدتي بكل ما يحتاجانه. وكانت جدتي تلبي لنا كل ما نحتاج أنا وإخوتي، واستمرينا على هذا الحال في رفح ومازالت المعاناة اليومية كما هي حتى بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي يطالب الموجودين في رفح بإخلائها والذهاب إلى مناطق أخرى.”
مع نزوح جديد، كان الطفل نافذ وشقيقاه وجداهما في 28 مايو 202، وحملوا القليل من أمتعتهم، وتوجهوا إلى منطقة مواصي خان يونس.
يقول نافذ: “مكثنا في مدرسة الحناوي مقابل سجن أصداء. كانت المدرسة مليئة بالركام، نظفنا أحد الفصول وجهزناه على قدر المستطاع للمكوث فيه".
بعد النزوح إلى خان يونس، اضطر الطفل إلى تحمل مسؤوليات وأعباء جديدة، فقد بدأ في بيع الترمس الذي كانت جدته تعده وتجهزه له ويذهب لبيعه في المدارس التي تأوي نازحين، والخيام القريبة من مكان نزوحهم، واستمر على ذلك لفترة من الوقت، حتى بدأت أسعاره ترتفع فتوقف عن ذلك.
في ختام إفادته، فاضت مشاعر الطفل نافذ وهو يقول: “ما زلنا نمكث في المدرسة حتى اليوم، أنا أفتقد أمي وأبي وشقيقيّ عمر وزياد. كانت أمي قريبة منا وحنونة علينا. كثير من الأيام تروي لي جدتي أنني أنادي على أمي أثناء نومي وأنا لا أشعر بذلك ولكن أحن لأمي كثيراً وأفتقدها كثيرًا".
تفاصيل استشهاد نافذ
صباح يوم الجمعة 15 نوفمبر 2024، توجه الطفل رفقة جدته، إلى منطقة مفترق أبو حلاوة جنوب خان يونس في محاولة للحصول على كيس دقيق من التجار في طريق مرور شاحنات المساعدات، عندما قصفت طائرات الاحتلال تلك المنطقة ما أدى إلى مقتله.
وقع استشهاد الطفل نافذ كان صادمًا ومؤلمًا ليس على جديه وشقيقيه فقط، بل على الباحث رامي رضوان الذي كان يدون قصته قبل ساعات، في مكان نزوحه في خان يونس جنوب قطاع غزة.
يقول رامي رضوان لفلسطين أون لاين: نافذ ابن العشر سنوات كان سابقا لسنه يتفوق على أترابه.. عندما جلست لتوثيق إفادته ظننت أنني أتعامل مع طفل صغير فدهشني طلاقة لسانه وبراعة تعبيره عن مأساتهم بسلاسة. شعرت أنني أقابل رجلا في ال٣٥ عاما يمتلك ثقافة متقدمة ووعي كبير وانتماء وطني متجذر.
وأضاف: ليس جدته وأخواله الذين يحبونه فقط بل كل من في المدرسة من النازحين يحب نافذ ويتوسموا فيه الخير، مشيرا إلى أنه فهم أن جدة نافذ تعتمد عليه كثيرا لفطنته وذكائه وهمته العالية لذلك اصطحبته معها لجلب الطحين.
وتابع: كان محبوب جده وجدته ومعقود عليه أملهم لمواصلة الطريق بعد فقد أكثر من نصف عائلته. لذلك كان حزنهم عليه كبير وكبير جدا.
وقال رضوان: نافذ يسرد وقائع قصة عائلته بأسلوب جذاب ولديه قدرة كبيرة على ترتيب أحداث القصة كأنه قاص متمرس.
ويردف رضوان، وثقت عشرات الافادات من ضحايا الحرب أكاد أجزم أن افادته هي الأقوى، تركت في نفسي أثرا بالغا لا يمكن للأيام أن تمحوه من ذاكرتي. قابلته عصرا واستشهد صبيحة اليوم التالي عندما أبلغت بالخبر نزل عليّ كالصاعقة.
يرحل نافذ بعد عام مليء بالتعب والنزوح والفقد والألم، وتبقى حكايته شاهدًا على المآسي التي يعيشها أطفال غزة بسبب احتلال لا يتوقف عن استهداف الأطفال وكل شيء في قطاع غزة ضمن جريمة الإبادة الجماعية.