في ليلة باردة من ليالي حرب الإبادة والشتاء، في خيمة كادت تطير مع الهواء، وأطفالي حولي نيام، وحيدًا يعصف التفكير بي: لماذا نحن هنا وكيف سأقوى على البرد الذي يعصر عظمي وكيف يقوون هم؟
كالملح على الجرح هذا الشعور! لأن المتاعب أيضًا لا تأتي فرادى: المرض والجوع والعطش ونقص الأموال والأنفس والثمرات أتت بهم حرب الإبادة جميعًا بلا استثناء.
من أين يبدأ الغزي الذي أجبره العدوان على النزوح بتلقي الأوجاع؟ إنه يقف حائرًا، وترتب له تفاصيل يومه القاهرة أولويات ما سيتلقاه من "لكمات حرب الإبادة" الطويلة التي يغذيها تعاون أمريكي، وتواطؤ غربي، وصمت دولي يفتح شهية المحتل "الإسرائيلي" لالتهام المزيد من أرضنا، وأبنائنا، ومشاعرنا.
وكأن النزوح القسري وحده لا يكفي، يحمل الغزي أوجاعه كل صباح، متفقدًا خيمته المهترئة، وأطفاله المنهكين بالبرد أو المطر أو كلاهما، يتحسس ملابسهم الممزقة وأجسادهم المرتجفة، وحناجرهم المرتعشة، ويسمع صوت زقزقة عصافير بطونهم، ويهتز بدنه لخريطة يوم طويل يعيد نفسه كل يوم مع المزيد من السوء.
ولا يأتي هذا الصباح إلا بعد ليلة مثقلة برياح التفكير العاتية التي لا تهدأ، وتأخذ في طريقها كل محاولة للسكينة أو الراحة.
يتلمس الغزي خطاه في أولى "معارك الحياة" باحثًا عن شربة ماء تروي ظمأ أسرته أو من تبقى منها، وأخرى يستخدمها في الغسل، بعد أن دمر المحتل معظم آبار المياه وعرقل وصول مياه "ميكروت" وزج بمئات الآلاف من النازحين في شريط ضيق يصعب على أي بلدية مواكبة احتياجاتهم وحدها.
تارة يفلح وكثيرا ما يفشل الغزي المغلوب على أمره، لكن لا مفر أمامه من تكرار المحاولة. ثم يتسمر أمام معركته الثانية مع توفير الخبز الشحيح أو الدقيق النادر وباهظ الثمن، مع منع المحتل دخول معظم المساعدات وحتى البضائع، وحمايته عصابات من اللصوص لسرقة الواردات القليلة لغزة، وفق منظمات إغاثية دولية.
بين مطرقة وسندان يجد الغزي نفسه، فلا هو يعثر على الخبز ولا يقدر على شراء الدقيق إن توفر.
وقبل أن ينتصف النهار وفي غمرة صراعه مع متطلبات الماء والخبز، يرن في أذنيه نداء زوجته إليه: الأطفال بحاجة إلى الحفاضات، وفي ذلك معاناة أخرى.
فإن كان يحتاج الحفاضات لطفل واحد فتلك مصيبة، وإن كان لطفلين فالمصيبة أعظم، لأن جريمة الإبادة الجماعية تطال الأطفال وحتى حفاضاتهم.
نعم، إنها من بين ما "حرم" الاحتلال دخوله إلى القطاع.
ولا يجد الغزي نفسه إلا مجبرًا على البحث عن الحفاضات كإبرة في كوم قش، وعلى شرائها في جملة ما هو مرغم عليه، بثمن باهظ يصل إلى تسعة شواقل للحفاضة الواحدة إن توفرت، وهي تسعيرة غير رسمية في غزة.
ثم يجوب الغزي ما استطاع من مكان نزوحه عله يجد ما يسد رمق أطفاله وأسرته مع شح السلع والبضائع وحتى المنتجات الزراعية التي دمر المحتل أنظمتها في قطاع غزة، وأرهب المزارعين فيه ومربي الماشية وقتل واعتقل منهم، ومنع الباقين من الوصول إلى أراضيهم، أو متطلبات عملهم.
يجد الغزي الذي يعاني مما سببه له المحتل أصلا من فقر وشح في المال، نفسه عاجزا عن العثور على قوت يومه أو متطلبات حياته الأساسية، وضحية لنهج التجويع والتعطيش.
ويعود خالي الوفاض، منتظرًا ما قد تأتي به تكية خيرية من هنا أو هناك وقد لا تأتي.
ويجول الغزي ويصول مكافحًا لنيل حقوقه في الغذاء بين المنظمات الدولية، وفي مقدمتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين أونروا التي حظرها كنيست الاحتلال، في قرار رفضته الوكالة ومعها دول العالم باستثناء أعوان المحتل.
وفي أغلب الأحيان لا يتلقى شيئا أو يطول انتظاره لأن المساعدات لم تدخل إلى القطاع وخصوصا شماله.
وفي ذروة النضال اليومي للبقاء على قيد الحياة، يواجه الغزي قلة الملبس، إلى جانب اهتراء المأوى، ولا يكاد يجد دورة مياه يقضي بها حاجته، أو مواد تنظيف يكافح بها البكتيريا والفيروسات والأمراض المعدية المحدقة به من كل جانب.
ويفيض حزنه على شهدائه وأحلامه وحقوقه، وعلى وطنه السليب، وأقصاه الأسير، لكنه يظل فخورا بنضاله وصبره في مواجهة المحتل.
هكذا يعيش النازح يوميًا قسرًا على هامش الحياة، ويظل يتساءل: لماذا نحن هنا في هذه الخيام بينما تنعم كل شعوب العالم بأوطانها وبيوتها؟
لماذا يشاهدوننا نتقلب في بحر من العذاب على يد المحتل ولا يحركون ساكنا؟