فلسطين أون لاين

وردة على قبر "ديما" وجنينها في يوم ميلادها 

تقرير رنا الحلو... فراق مفجع للأب والزَّوج والابنة وحفيدها الأوَّل

...
رنا الحلو... فراق مفجع للأب والزَّوج والابنة وحفيدها الأوَّل
غزة/ يحيى اليعقوبي:

كان الرصاص المصوّب من آليات جيش الاحتلال وقناصته كزخات المطر، وقفت عند  جدران الغرفة التي نزحت إليها رنا الحلو (44 عامًا)  وزوجها "نضال" وأولادها عاجزة عن صد الرصاص الموجه نحوهم، إحدى الرصاصات كان على وشك أن ترديها شهيدة وهي تحمل طفلها الصغير محمد (3 سنوات) لولا قدوم زوجها وسحبها لداخل الغرفة، فاستقرت برقبته رصاصة أسقطته على الأرض مضجرًا  بدمائه، أُعدم أمام أولاده وبناته، يفتدي زوجته وطفله ويرحل شهيدًا.

كانت ابنته ديما الحامل بشهرها الخامس، أول من نهض للاطمئنان على والدها، وكانت أول من سقط بجواره، بعدما استهدفها قناص بأربع رصاصات استقرت بقدميَّها وبطنها ومنطقة الصدر، لتستشهد مع جنينها ووالدها وظلت ساعة كاملةً تنزف وتلفظ أنفاسها الأخيرة.

في الخارج بدأت الدبابات الإسرائيلية بهدم سور جمعية الشبان المسيحية في 15 ديسمبر/ كانون أول 2023 الواقعة بقلب مدينة غزة، والتي تحولت لمركز يؤوي النازحين.

وفي لحظة تفرقت العائلات النازحة، وبدأت حالة من النزوح والفوضى والصراخ المتزامن مع إطلاق رصاص، لكن رنا الحلو التي تكنى بـ "أم العبد"، انتقلت لغرفة أخرى مع طفلها محمد وبناتها، تكتوي بنار فراق موجع للزوج والابنة والحفيد الأول الذي لم تراه بعد، كانت ابنتها تلفظ أنفاسها الأخيرة ولا أحد يستطيع وقف النزيف من جسدها الذي اخترقته أربع رصاصات، وامتلأت الغرفة بالدماء.

تتكدس الآهات في صوتها وهي تروي لـ "فلسطين أون لاين" قائلة: "اعتلى قناصة الاحتلال العمارات السكنية المقابلة لنا، وبدأوا بإطلاق الرصاص نحونا، استشهدت ابنة أخي "شهد" وكانت تعيش معنا بنفس الغرفة بمركز الإيواء، وهي عروس كانت تضع ملابس عرسها بجانبها وتتمنى ارتداء بدلة الفرح، وفي تلك اللحظة جاء زوجي وسحبني للداخل وأصابت الرصاصة رقبته، وجاءت ديما رغم أنها أكثر خوفًا، ووقفت على باب الغرفة تصرخ وتستغيث "الحقوا بابا" تنادي على زوجها محمود الموجود بغرفة أخرى، ولم أستوعب كيف وقفت أمام رصاص كالمطر".

تنتشل بقية التفاصيل من أدراج الذاكرة، مردفةً: "ظلت تنزف ساعة ولم يستطع أحد إسعافها ولم نستطع فعل شيء لأن الرصاص استمر باختراق نوافذ وجدران الغرفة كالمطر، كانت صدمة وفاجعة رأيناها بعيوننا، لم تتحمل قلوبنا قسوة المشهد، الأولاد كانوا يصرخون ويبكون وأنا لم أستطع النطق بحرف واحد من شدة الصدمة". 

لم يستوعب زوج ابنتها محمود أبو قمر، الصدمة التي وقف يتجرع مراراتها، يرى زوجته التي تحمل فلذة كبده تحزم حقائب الرحيل، يُحرم من شعور الأبوة، وحمل طفله الأول بين ذراعيه.

دقائق فصلت بين حياة كان يجلس فيها نضال الحلو بين أبنائه، يعيش حياة التشرد والنزوح ويتمسك بأنصاف حياة، يتحمل الجوع والحرب ويحمل فوق كاهله هم إطعامهم وتلبية احتياجاتهم، وبين موت وشهادة رحل فيها الأب بتضحية قدمها لأجل أن يعيشوا، ويواصلوا الحياة الصعبة بدونه.

عروس ارتدت الكفن

فصلت تلك الدقائق بين أمنية للعروس شهد التي كانت تدور بفستان الفرح لكنها تكفنت به، ليقتل الاحتلال تلك الفرحة، وحرمت الرصاصات "ديما" من عيش حياة الأمومة، وحرمت الجنين من نبضة الحياة، فرافق أمه شهيدًا كآلاف الأجنّة الذين استشهدوا في بطون أمهاتهم.

سحبت الحلو ابنتها ديما لغرفة أخرى بعيدة عن نيران القناصة، بينما لم تستطع سحب جثة زوجها وجثة ابنة شقيقها "شهد"، "ظلت ديما تلفظ آخر أنفاسها التي سكنت بعد ساعة واستشهدت".

ارتخى رأس الشهيدة بين كفي أمها، التي أخذتها الذكريات للحظة ولادتها، وكانت تتمنى أن تقف معها وهي تضع مولودها، وليس أن تعيش مشهد وداع قاسٍ ومرير.

ألقت الحلو نظرة وداعٍ خاطفة خلفها على زوجها الممدد شهيدًا، على باب الغرفة صباح اليوم التالي مع هدوء صوت الرصاص، ثم جسد ابنتها الذي غطته بملاءة، استقر النظر عند بطنها الذي لم يعد ينبض بحياة جنين في شهره الخامس كان الجميع ينتظر قدومه وإطلالته للحياة، "ماذا حدث؟" كانت لا تستوعب ما جرى، تعيش في صدمة، تجمد صوته، إلا من دموع صامتة كانت تبكي بصمت، تتوجع، تتألم، تحمل أوجاع الدنيا في قلبها.

لثمانية أيام لم تتمكن العائلة من دفنهم، ومواراتهم الثرى، وعادت بعد انسحاب جيش الاحتلال من مقر الجمعية لتجدهم مدفونين بجوار قبر والدها بساحة المركز، لتحرم من نظرة الوداع "هذا الأمر لا زال يقهرني حتى الآن كنا لا ننام من شدة التفكير بهم، نخشى أن تنهش الكلاب جثثهم وكلما توجهنا للمكان كان يطلق النار عليهم، وفي إحدى المرات نجح أخوتي بالوصول إليهم ودفنهم لكن لم أكن معهم خلالها، ولا زال القهر يلاحقني كلما أذهب لزيارة القبرين لأننا حرمنا من دفنهم لحظة الاستشهاد، وتركناهم بغير إرادتنا، ولم نتمكن من دفنهم".

تستذكر: "خرجنا بلا أحذية، وكانت الدبابة تلاحقنا، كنا نركض، نبحث عن مكان يأوينا ولم نجد حتى وصلنا ميناء غزة، مكثنا ليلة كاملة بالبرد القارس على بلاط مبنى فارغ، وعشنا أسبوعا لم نهدأ إلا عندما استطعنا دفن جثامين الشهداء".

فرحة قتلت

تزوجت ابنتها "ديما" قبل الحرب بخمسة أشهر، وعاشت العائلة أول فرحة كانت ستكتمل بقدوم الحفيد الأول، إلا أنها فتحت أبواب قلوبهم لحزنٍ وألم استوطنها بفراق مفجع لديما وجنينها ووالدها، وجدها وابنة خالها.

"نفسي أضمه" مضت ثوان معدودة تاهت أمها في دهاليز الذكريات، اختلطت فيها مشاهد الآلام بالأمل وهي تستحضر كلمات ديما التي كانت تمني النفس أن تحتضن مولودها ويعود بيت أهل زوجها من جنوب القطاع "كانت تحلم إذا رزقت بولد بتسميته "عدي" وإذا كان المولود بنتًا "إيلاف" استذكر كلماتها لي: "نفسي أشوفه لمين بده يطلع، شبه مين" لكنها قتلوها وقتلوا طموحها ".

لم ينس محمد ابن الأربعة أعوام الحدث، ويذكر أمه باستمرار بما جرى: "أبويا أكل الطلقة (أصيب برصاصة)، اليهود قتلوه"، ويذهب يوميًا إلى قبره القريب من مكان نزوحهم، يحاول الحفر بيديه لـ "إخراجه من القبر" كما يعتقد، وأنه "سيخرج من القبر بعد انتهاء الحرب"، يقف أمام أمه يسألها بحسرة "ليش الأولاد الهم أبوا وأنا راح وسابني".

وفي وقت كانت العائلة تعيش المأساة، انقطع الاتصال مع ابنهم البكر عبد المجيد (26عامًا) المغترب بسلطنة عمان، الذي ظل يحاول الاتصال وإرسال المناشدات بعد معرفته باقتحام مقر الجمعية، فكان أمام فاجعة استشهاد والده الذي لم يراه منذ ثلاث سنوات، وشقيقته، تقول أمه "كان والده يطمئنه باستمرار حتى لا يشغل باله علينا، رغم أننا كنا نعيش في خطر كبير".

تحلى زوجها نضال بالشجاعة لحظة مواجهة رصاص القناص بجسده لينقذ زوجته وطفله محمد، وكان دائم المخاطرة بنفسه لأجل تعبئة المياه وجلب الطعام، يحضرها موقف، لقفزه بين الجدران والوصول لمكان لجلب كيس طحين في وقت كانت تشتد المجاعة بغزة، وحوصر لمدة يومين حتى استطاع حمله وجلبه لأبنائه.

رحلت ديما يوم الـ 15 من ديسمبر، وحل يوم ميلادها في 26 من الشهر ذاته، ليحتضن الشهر ذكرى الميلاد والشهادة، لم يجد زوجها الذي ودعها بهدية تسرها يوم ميلادها، فلم يجد إلا وردة عثر عليها بصعوبة وضعها على قبرها.

رحلة نزوح

بدأت رحلة العائلة التي تسكن في منطقة السودانية شمال غرب مدينة غزة، مبكرًا مع النزوح والتشرد مساء السبت 7 أكتوبر/ تشرين أول 2023، عندما بدأ جيش الاحتلال بنشر إنذارات إخلاء، لم يمهل السكان لنقل مقتنياتهم وأمتعتهم، لم يتوقع الناس أن يشن الاحتلال حرب إبادة جماعية مختلفة عن الحروب العدوانية السابقة، يدمر خلالها كل شيء.

بعد ليلة عصيبة ارتدت السماء لون الوميض المنبعث من انفجارات الصواريخ الإسرائيلية والأحزمة النارية، وتحت تلك الضربات نزحت العائلة صباح اليوم التالي وحمل كل فرد حقيبة صغيرة تضم بعض الملابس على "أمل العودة بعد أسبوع أو أسبوعين" هكذا كان الاعتقاد، لحظة النزوح، ولم تعرف أنه خروج الوداع.

"لم نأخذ الأشياء اللازمة لأننا توقعنا أن يكون النزوح مؤقتًا، فذهبت لبيت أختي، فلاحقنا القصف، وكنا ننزح من قصف إلى آخر، ونركض بين الموت، إلى أن وصلني بعد ثلاثة أيام بتدمير وقصف منزلي الذي بنيناه من الصفر ودفن معه ذكرياتنا الجميلة التي استمرت لأكثر من 20 عامًا، ذهبت الذكريات ورغم قسوة ذلك، لكني أيقنت أن المال يمكن تعويضه" تعيد تقليب المشاهد.

بعد رحلة تشرد استمرت لنحو شهر، وصلت الحلو وعائلتها لمقر جمعية الشبان المسيحية في شهر نوفمبر/ تشرين ثاني، وتحول لمركز إيواء، واعتقدت أنه سيكون أكثر أمنًا من البيوت التي تنقلت إليها، وضم عائلات أخرى، عاشت في غرفة مع ابنتها ديما وعائلة أخرى.

لم يطل الهدوء الذي عاشته الحلو في مركز الإيواء الجديد، فكانت على موعدٍ مع ليلة عصيبة، تشعر بصوتها المكلوم وهي تقلب صفحة ذكرياتها، قائلة: "لم يتوقف القصف والأحزمة النارية في تلك الليلة، وعندما أطل الصباح وجدنا جثة أبي أمام باب الجمعية، غارقًا بدمائه استشهد بست رصاصات أطلقها قناص إسرائيلي عليه أثناء محاولته القدوم إلينا مع شدة القصف بالمنطقة، كونه كان يعيش بمنزله وحيدًا".

بجنازة سريعة، ونظرة وداع خاطفة، دفنت الحلو وأخوتها والدهم في ساحة الجمعية، ونزحوا لمنطقة أخرى لتكتشف أن الموت والخطر سبقهم إلى هناك "قصف المكان الذي ذهبنا إليه، ونمنا في الشارع لأننا لم نجد مكانا يأوينا، لذلك اضطررنا للعودة للجميع، وكأننا عدنا لمصيرنا المكتوب، فبعد يومين وبتاريخ 15 ديسمبر من العام الماضي، بدأ هجوم دموي".