قائمة الموقع

"الرَّيس نبيل".. صيادٌ يحفظ "إرث أبيه" "في جوف المخاطر

2024-11-18T11:02:00+02:00

"كالسمكة تموت دون الماء"، حملت هذه الكلمات من "الريس نبيل المسارعي" الكثير من التصميم على ممارسة الصيد، بينما كان يبحث في شباكه الفقيرة حاليًا عما جادت به مسافة محدودة من البحر.

وفيما سلطت الشمس أشعتها الذهبية على "الريس نبيل" (31 عاما) وزملائه العاملين معه وأمدتهم بالحرارة في صباح بارد، كان يتذكر النيران التي أمسكت بمقدرات الصيد في خضم حرب الإبادة الجماعية، وسيلًا من التحديات التي تعترض عمله.

وفي صغره، حرص والده الذي عمل صيادًا أيضًا على اصطحابه في رحلاته ببحر دير البلح وسط قطاع غزة، ونسج بذلك قصة حب انغرست في وجدانه كنبتة كبرت شيئا فشيئا تجاه الصيد، حتى شكلت "إرثا" في منظوره.

وفي دردشة مع "فلسطين أون لاين" يصف المسارعي تلك الفترة قبل 22 عامًا بأنها "أيام حلوة، ونحن صغار نندفع بشغف نحو البحر، لكن بعدها استجدت صعوبات".

تعلّم المسارعي من أبيه آنذاك كيفية نصب الشبك واحترام الصيادين والثروة السمكية وقوانين الصيد، لدرجة أن والده بات يعتمد عليه عندما أصيب بمرض القلب الذي أوقفه عن العمل.

وللشاب المسارعي أخ أكبر لكن اهتمامه ينصب على التعلم الجامعي، ولذلك وجد نفسه مسؤولًا عن مقدرات الصيد التي يمتلكها أبوه وكان أساسها "قارب مجداف" وهو ما يسمى محليًا "حسكة".

وتبدأ رحلة عمل المسارعي يوميا بعد المغرب بالمبيت بقرب الشاطئ ويدخل بحر دير البلح عند الثالثة بعد منتصف الليل.

انهمك المسارعي في تفقد شباكه لمعرفة ما سيجنيه من ليلة عمل بحري في بيئة خطيرة بسبب حرب الإبادة، قائلا: إن والده الذي يبلغ الآن 65 عاما ورث أيضًا عن عائلته مهنة الصيد وعندما استقل عمله عنها اشترى تلك الحسكة (القارب) وبدأ العمل عليها.

وبهذا القارب كان يدخل مسافة ميلين في البحر لاصطياد أسماك السردين والبلميدا والغزلان والجلمبات "السلطعونات"، وهي ذات الأصناف التي يسعى إليها في هذه الفترة لكن بشق الأنفس.

وإذا ما تمكّن من خوض غمار البحر لمسافات أبعد فستكون في انتظاره أنواع أخرى من الأسماك كالمليطة والطرخون والجرع واللوكس.

ويعود عدم تمكنه من ذلك إلى التضييقات والجرائم التي يرتكبها الاحتلال بحق الصيادين الغزيين وتتعدد أشكالها بين القتل والإصابة والاعتقال وحرق المراكب ومنع إدخال المواد اللازمة للصيد إلى قطاع غزة المحاصر.

ولطالما كان المسارعي ضحية لتلك التضييقات، وعن ذلك يقول: ذات مرة كنت مع أخي في البحر وحضر طراد تابع للاحتلال وأطلق نيرانه تجاهنا وأصيب أخي بجراح متوسطة في أغسطس/آب.

ولا يمثل ذلك سوى حلقة في مسلسل معاناة يعيشه المسارعي الذي تعرض مرارا للملاحقة حاله كحال بقية الصيادين.

ويضيف المسارعي أن ابن عمه استشهد بنيران الاحتلال الذي ينتهج التضييق على الصيادين لكن وتيرة الجرائم تسارعت خلال الحرب.

وبعد تسلمه العمل من والده طور المسارعي أدواته واقتنى قاربا يعمل بالموتور، لكن الاحتلال أحرقه مع قوارب أخرى يقدر المسارعي عددها بنحو 33 في دير البلح وحدها خلال حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

يقول المسارعي: هذا العدد المحروق من القوارب في دير البلح فما بالنا ببقية المحافظات؟ 

وكانت تكلفة "قارب الموتور" قبل الحرب حوالي 20 ألف دينار أردني، لكنها قفزت حاليا إلى ما يتراوح بين 60 و70 ألف دينار، حسبما يفيد الصياد.

ونتيجة لذلك عاد المسارعي إلى العمل على "قارب المجداف" الذي يمثل له نقطة الصفر.

ويقدر المسارعي عدد الصيادين في قطاع غزة بنحو 6000 صياد منهم قرابة 1000 في دير البلح، يعانون من تبعات شح الأسماك التي يصطادونها على أوضاعهم المعيشية لاسيما مع الارتفاع الحاد في أسعار ما يتوفر من بضائع بسبب الحرب.

ويطال غلاء أسعار الشباك والحبال وبكرات التخييط وما يعرف في أوساط الصيادين بـ"كفل التربيط" وغيرها مما يحتاجونه، وفق المسارعي.

ويضرب مثلا بـ"كفلة تربيط" الشباك التي كان يشتريها قبل الحرب بسبعة شواقل ويبلغ ثمنها الآن 250 شيقلا إن وجدت، وكذلك مادة الفيبرجلاس التي تستخدم لبناء أو ترقيع الحسكات وكان سعر الكيلو الواحد منها نحو 40 شيقلا وارتفع إلى 600 شيقل.

وبنبرة تعتريها الحسرة يتابع: الشبك الذي كنت أشتريه بـ200 شيقل الآن إن وجدته أضطر لشرائه بـ1500 شيقل.

ونظرًا لعدم توفرها بالأسعار المعتمدة رسميا، فإن الصيادين كثيرا ما يجدون أنفسهم مجبرين -كما يقول- على شرائها بهذه الأثمان الباهظة مما يعرف بالسوق السوداء.

ويؤثر ذلك في أسعار الأسماك المباعة. ويقول المسارعي: إن الصيادين يبيعون الأسماك للتجار الذين يبيعونه بدورهم للمستهلكين.

وارتفع ثمن الكيلو الواحد من الجلمبات المفضلة شعبيا إلى 20 شيقلا من أصل ثمانية شواقل قبل الحرب، بحسب المسارعي.

ويضيف: قبل الحرب كنا نبيع كيلو سمك الغزلان بـ25 شيقلا ونشتري بهذا المبلغ طبقين من البيض وبعض السكر والملح، الآن تبيعه بـ100 شيقل ولا تستطيع شراء شيء.

ويعيل المسارعي أسرة مكونة من ستة أشخاص تعاني في الحصول على لقمة العيش كسائر الغزيين بسبب الحرب. وهذه "اللقمة" تنزع من صدره أي شعور بالخوف أثناء ممارسة هذه المهنة.

وردا على سؤال عن المكسب الذي يجنيه حاليا من الصيد، يجيب: "ساتر حالي".

والصيد هو المهنة التي يجد فيها المسارعي راحته، خصوصا أنه جرب العمل في مهن كالطوبار والقصارة لكن يجد فيها ضالته.

"أنا أعمل في مهنة الصيد بمالي ولا أعمل عند أحد"، يقول المسارعي.

ولهذا السبب يناديه الصيادون "يا ريس" وهو اللقب الذي يطلق على الصياد المخضرم صاحب المال والخبرة في العمل، ويقال في أوساط الصيادين: "مش كل مين انقال عنه ريس بيكون ريس".

ورغم أن حياة المسارعي قد تكون ثمنا لتصميمه على ممارسة مهنة الصيد في الحرب، فإنه لا يبدي أدنى استعداد للتخلي عنها.

ومع كل صباح يقف منتصب القامة غير قابل للانحناء منطلقا نحو عمله الذي يرى فيه حقا له في بحره وتحت سماء وطنه، يحفظ به "إرث أبيه".
 

اخبار ذات صلة