بداخل مقبرة "النمساوي" وسط محافظة خان يونس، تعيش الكفيفة ياسمين أبو جاموس مع طفلتيها الكفيفتين روان (أربع سنوات) وتهاني (عامان) وضعًا مأساويًا، لا يتوقف عند مجاورة القبور التي لا تبعد عن خيمتها سوى عشرات الأمتار، وإنما بكثرة الذباب والباعوض والحشرات والكلاب الضالة التي تثير رعبها ورعب أطفالها مغرب كل يوم، فيزداد "المكان وحشةً ورعبًا".
رغم أن الخيمة من الخارج تبدو حديثة التسليم من قبل جمعيات خيرية، إلا أنها لا تمت بصلة للواقع من الداخل، فالخيمة تخلو من فرشات وأغطية، ومواد تنظيف وخزان مياه، كان الذباب يأكل وجه طفلتها "تهاني" التي تغط في نوم متقلب لحظة وصولنا المقبرة، وهي معركة تخوضها الطفلة الصغيرة وحدها مع جيش من الذباب بعيدة عن بصر الأم.
من داخل نافذة الخيمة القماشية، تبدو بعض القبور حديثة الدفن، وهي مراسم تسمعها ولا تراه، فيصل لمسامعها بكاء ذوي الشهداء ونحيب أمهاتهم، وكلمات الوداع، وتحمد الله أنها لا ترى تلك المشاهد القاسية، وأشلاء الشهداء وقوافل الدفن التي لا تتوقف عن القدوم للمقبرة رغم امتلائها من سنوات.
رحلة نزوح
بينما تلهو الطفلتان في لعبة بالية ممزقة وملاعق وأطباق طعام هي الألعاب المتاحة لهن هنا، تقص أمهن لـ "فلسطين أون لاين" قصتها، فتقول: "نزحنا من بني سهيلا بعد تدمير بيتنا ومن ثم خيمتنا وتكرار اجتياح المنطقة من جيش الاحتلال إلى محافظة رفح، ثم اتجهنا لمدينة أصداء وهناك اجتاح الاحتلال المنطقة فقدمنا إلى هنا لأنه المكان المتاح لنا".
خلال فترة نزوحها من بني سهيلا، أمضت أبو جاموس خمسة عشر يومًا في الطرقات بعدما لم يعطِ الاحتلال أهالي شرق خان يونس فرصة لنقل أمتعتهم ومقتنياتهم فخرجت تحت ضربات الأحزمة النارية، ورغم وجودها في خيمة الآن، إلا أنها ترى أن الوضع لم يتغير، "لا يوجد أمان هنا، القلق والخوف دائم ويلاحقني داخل المقبرة مع ساعات الليل" تقول.
تعود بذاكرتها للحظة نزوح العائلة الأخير "تركنا كل شيء معنا وخرجنا بلا شيء، والآن نكمل حياتنا من الصفر هنا".
وبحذر شديد تخرج أبو جاموس خارج الخيمة لجارتها أم "خالد" التي تسكن بالخيمة المقابلة لها، والتي تقص الأخيرة لها، كل ما يحدث في المقبرة، فتوصف لها شكل القبور وقصة كل شهيد يأتي أهله لدفنه في المقبرة وتوزيع القبور، وتزداد مخاوفها لحظة خروج زوجها للبحث عن أخشاب لطهي الطعام كون الخيمة تخلو من الغاز.
عن الحياة في المقبرة، تشير نحو النافذة التي تظهر من خلفها القبور، قائلة بملامح يرتسم عليها شبح ابتسامة من بؤس العيش، "الحياة بالمقبرة صعبة، كنت أخاف المرور بجوارها قبل الحرب وكنا نقرأ الفاتحة على أرواح الموتى ونمضي مسرعين، ولم أتخيل أن أعيش بجوار القبور، وأحمد الله أنني لا أرى جثامين الشهداء".
وعندما حاولت أبو جاموس العودة لمنطقة سكنها شرق خان يونس، كان المكان غير موائم لإعاقتها، بسبب تجريف الاحتلال للشوارع وهدم البيوت، ونتيجة خشيتها من الوقوع في حفرة أو التعثر بركام المنازل المدمرة المليئة بالأسياخ، وجد زوجها المقبرة أنسب مكان في ظل عدم وجود مساحات في منطقة المواصي غرب محافظة خان يونس.
وإضافة لعلامات سوء التغذية، ولملابس طفلتيها البالية التي تعكس سوء الحالة داخل المقبرة، يظهر آثار تورم على أيديهن، وهو من آثار بعوض ينغص حياة العائلة وينافس الذباب في السيطرة على الخيمة من الداخل.
غياب المساحات
غياب المساحات وتكدس منطقة المواصي بالنازحين، ألقى كذلك مصطفى عاشور في "جحيم المقبرة" كما يصف، إذ لم يتخيل في يوم من الأيام أن يكون جارا للموتى ويكون على مسافة قريبة من المكان الذي تزداد وحشته "مع ساعات الليل" كما يصف، إلا أن امتلاء المقبرة ومحيطها بالنازحين وتكيفه مع المكان جعل الأمر يبدو طبيعيا، فضلا عن قربها من المستشفيات والأسواق وآبار المياه.
وليس الحشرات وحدها هي ما تقلق سكان المقابر الأحياء، يقول عاشور لـ "فلسطين أون لاين" بينما يلقي نظرة واسعة على المقبرة: "هناك تهديدات على حياة أطفالنا إضافة للاحتلال من العقارب، والكلاب الضالة، التي تأتي إلى هنا في الليل وتحاول نبش القبور حديثة الدفن، فنصحنا الأهالي بتعميق حفر القبور وزيادة الرمال التي تغطى بها، كما أننا نطارد الكلاب الضالة في الليل عندما يكون الدفن حديثا".
يشير نحو قبر حديث، ويروي قصته "هذا قبر لشهيد طفل دفن قبل يومين هنا، ونأتي إلى هنا في الليل لتفقده حتى لا تقوم الكلاب بالحفر رغم وجود طبقة أسمنت تغطي الجثمان".
وكما يؤلم مشهد دفن الشهداء الكفيفة أبو جاموس رغم أنها لم تره، فإنه يدمي قلب عاشور الذي يشارك في دفن الشهداء، ورؤية الأشلاء وبكاء الأهالي، ويردف بابتسامة تخفي خلفها مرارة الواقع "والله تأقلمنا على مشاهد ما كناش نحلم نشوفها أو نعيشها".
ومع ساعات المغرب، تغلق جارتهم أم خالد أبو عاصي أبواب خيمتها القماشية، خشية من الكلاب الضالة التي تبدأ قطعانها بالوصول للخيمة.
تجلس أبو عاصي على أبواب خيمتها وبجوارها يجلس أطفالها، بينما تنظر إلى مشهد القبور الذي تراه صباح مساء، يضاف إليها الجنازات التي تأتي إلى هنا، تذكرها بواقع الحرب المؤلم وحياتها المريرة هنا.
وفي خيمة مصنوعة من القماش البالي، أو المهترئ نتيجة طول فترة العيش وبسبب الشمس الحارقة في فصل الصيف، لا تقل حياتها قسوة عن حياة أبو جاموس، وتعاني من نفس ما تعانيه من قوارض وحشرات وذباب وباعوض تزاحهما في سكن الخيمة.
تخرج تنهيدة وجع بعدما تجمعت الدموع حول عينيها بلهجة عامية: "شايف احنا كلنا بنام بهالخيمة، القوارض والحشرات أكلتنا أكل" .. تفرد كفيها وترسم تعابير وجهها حسرة: "مين برضى نعيش في مقبرة ونجاور الموتى؟ (..) هذا مش وضع! يشوفولنا حل؛ يشوفولنا حل".
تذهب بنظرها للخيمة التي تأكلها الثقوب، تتبع نظرها بكلمات غاضبة: "ربنا يسترنا من قصف اليهود، الحياة هنا رُعب".
أمامها، كان ثلاثة أطفال يلعبون بين رمال المقبرة، تحرسهم أم خالد بنظراتها خوفا من غدر "العقارب" التي لا يمنعها شيء من التسلل إلى خيمتها، كما تتسلل القوارض، ترى خيام النازحين ملاصقة لجدران المقبرة، تنبع رائحة الموت هنا، وهذا ما دفع أم خالد التي تروي ملامحها الداكنة حكاية نزوح قاسية، وحياة معيشية صعبة تجسد حياة النازحين، للقول بحرقة: "لو وجدنا أماكن غير المقابر لذهبنا إليها، لكننا اضطررنا للقدوم هنا".
ودفعت الظروف الصعبة خلال حرب الإبادة الجماعية النازحين للسكن بداخل المقابر أو على الأرصفة المجاورة لها، بحيث يجاور "الأحياء الأموات" في أحد المشاهد القاسية التي جعلت خيارات النازحين مُرّة.