قائمة الموقع

انهيارُ الفلسفة الأخلاقيّة للمؤسسات العدليّة الدّوليّة: نظرةٌ تحليليّة

2024-11-16T12:20:00+02:00

بعد أن تعدى عدد ضحايانا حواجز مريعة من استمرار الإبادة الجماعية المتعمدة وجرائم الحرب غير المسبوقة على أكثر من مليوني وربع المليون فلسطيني محاصرين منذ ما يقارب العقدين من الزمن في بقعة صغيرة من الأرض، من دون غذاءٍ أو دواء منذ أكثر من 400 يومٍ، يحق لنا أن نسأل نحن الفلسطينيين، ضحايا هذه المجازر، ما جدوى وجود ما يُسمى المؤسسات الدولية، طالما أنها عجزت تماماً عن ردع كيانٍ معادٍ للإنسانية؟

والأدهى أنه يتغذى مالياً وعسكرياً من دولٍ نصّبت نفسها راعياً للنظام العالمي، إنها مفارقة أخلاقية تضع هذه المؤسسات أمام سؤال وجودي حقيقي، فهي إن لم تُفلح في ردع المعتدي، ولم تستخدم الوسائل التي شرعها القانون الدولي في كبح جماح المجرمين أعداء الإنسانية، فما الجدوى من بقائها إذن، وكي لا نظلم الجهود الصادقة التي انبرت عشرات السنين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في الدفاع عن الإنسانية والسلام الدوليين، (والغريب أنها المدة ذاتها التي تعتبر عمراً لما يُسمى إسرائيل؛ الدولة الأكثر دموية في التاريخ)، نقول بأهمية مراجعة آليات تنفيذ تلك القوانين الإنسانية العامة، التي فقدت أهميتها حين فشلت في التطبيق، فأي قانونٍ يحمل في جوهره الردع والكبح والترهيب وصولاً إلى إمكانية العقوبة، وإلا يعتبر موضوعاً جميلاً في الإنشاء، ليس إلا.

نعلم أن المؤسسات الدولية، وخاصة تلك التي تفتقر إلى القوة العسكرية المباشرة أو القدرة على فرض قراراتها، وهي تواجه تحديات كبيرة في تطبيق معايير أخلاقية واضحة في عملها. وقد يقول قائلٌ بغياب آلية الردع التي تجعل من الصعب عليها حماية المدنيين أو فرض احترام القانون الدولي. لكن التاريخ المعاصر أثبت لنا أن هذا القانون الدولي متعدد الأوجه، فهو لا يمتلك آليات الردع لأنه مجرد مفاهيم وتوجيهات (التجربة الفلسطينية)، ونراه ينقلب فجأة إلى وحشٍ كاسر يحرك جيوشاً لتسحق من سماهم الخارجين عن هذا القانون الدولي، (التجربة العراقية).

في هذا الإطار، تبرز العديد من الأسئلة الفلسفية الأخلاقية حول حقيقة هذه المؤسسات، وكيفية تبرير أفعالها، وما هي القيم التي يجب أن توجه سلوكها؟

وكي يكون مدخلنا ذا صبغة علمية علينا أن نمر في هذا المقال على التحديات الأساسية التي تواجه هذه المؤسسات الدولية، وكيفية الرد عليها من وجهة نظر فلسطينية إنسانية أو لنقل؛ وجهة نظر من وقعوا ضحايا العجز الدولي:

سيقول قائلٌ إن أهم التحديات التي تواجه منظماتٍ قضائية وقانونية تتبع السلطة الأممية للأمم المتحدة، وإن تطبيق المبادئ الأخلاقية في ظل ضعف القوة هو أهم هذه التحديات، فكيف يمكن لمؤسسة دولية أن تدافع عن حقوق الإنسان أو تحافظ على السلام والاستقرار في منطقة ما، إذا كانت تفتقر إلى الوسائل العسكرية أو الاقتصادية اللازمة أن تفرض رأيها؟

وردنا طبعاً؛ كيف نجحت تلك الأمم المتحدة في عقوبة بعض الدول وأوصلتها إلى الخضوع للبند السابع الذي يعني تدخلاً عسكرياً ملزماً من الدول الأعضاء، البند الذي يتناول الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الأمم المتحدة في حالة تهديد السلم أو وقوع إخلال به أو حدوث عمل من أعمال العدوان.

هذا البند يمنح مجلس الأمن صلاحيات واسعة لاتخاذ قرارات ملزمة لجميع الدول الأعضاء، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية كأحد الخيارات الأخيرة. ضماناً لما أسموه الأمن والسلم الدوليين، وحماية المدنيين من أجل فرض القانون الدولي؟ إنها هزلية تاريخية وسقوط أخلاقي حين الوصول بالعبث الفعلي بمفهوم القانون، وإمكانية تطبيقه على فئة دون أخرى، في انعدامٍ تام للقيمة المستند عليها القانون وهي العدالة، فالقاعدة العدلية المنطقية تقول إن الانحياز لطرف يعني الظلم لطرفٍ آخر، وإن وصول قانونٍ ما إلى إمكانية تشكيل نصوصه حسب المصالح ومعادلات القوى ومقتضى الحال، يعني أنه فَقَدَ مشروعيته، وبالتالي فقدت تلك المؤسسات القضائية المبنية عليه جدوى وجودها أصلاً.

أخذ بنا الظن نحن البشر الطامحين إلى العدل والسلام، أن هناك إمكانية لوجود توازن بين الأخلاق والواقعية في أداء المؤسسات القضائية والعدلية الدولية، وأن هذه المؤسسات تلتزم بمبادئها الأخلاقية بصرف النظر عن العواقب، ولكنها خيب ظننا بل ظن البشرية التي تسعى إلى تحقيق السلام الدولي على الأرض، وبالتالي جنحت إلى اتخاذ قرارات واقعية تأخذ في الاعتبار القوى السياسية والاقتصادية الموجودة في تصريحٍ واضح لانحيازها ووصولها إلى الظلم نقيض العدالة مما يعد هذا السقوط شرطاً لازماً لتداعيها.

لقد تخلت هذه المنظمات عن أسلحتها الضرورية للإنصاف والعدل والمساواة وتحقيق السلام على الأرض، وبمجرد انحيازها فقد خاب سعيها، وتقوضت الفلسفة التي بُنيت عليها، والقائمة على الأسس الفلسفية الأخلاقية، التي من ضمنها السعي لتحقيق أقصى قدر من الخير، حتى لو كان ذلك يتطلب التضحية بمصالح بعض الأفراد أو الجماعات. فيما يُسمى الأخلاق النفعية، وتلك الأخلاق القائمة على الواجبات بوجوب التزام المؤسسات الدولية بواجباتها القانونية والأخلاقية، مهما كانت النتائج، ناهيك عن الأخلاق الفضيلية المرتكزة على تطوير الفضائل الأخلاقية لدى الأفراد والمؤسسات.

ما يعني أن على المؤسسات الدولية العدلية أن تسعى إلى تطوير فضائل مثل العدالة والشجاعة والحكمة، حتى تتمكن من اتخاذ القرارات الصحيحة في المواقف الصعبة. وهذا كله انهار الآن في تجربة الإبادة الجماعية في غزة.

ويحق لنا الآن أن نبحث عن الحلول التي يمكن أن نقترحها بعد فشل النظام العالمي في وقف الظلم الصريح على الفلسطينيين الذي وصل إلى حد إبادتهم؟

علينا أولاً أن نسخّر قوى بديلة بعيداً عن تلك القوى الخائنة للإنسانية التي تم تجريبها عقوداً من الزمن، ونؤمن هنا بقوة النخب العالمية في كشف زيف هذا الانحياز في القانون الدولي والعمل على خلق آليات لتصحيح هذه المؤسسات، وذلك من خلال بناء التحالفات، وتقوية الشراكات مع المنظمات غير الحكومية، والضغط على المؤسسات الفاعلة وصناعة جماعاتٍ ضاغطة منظمة لتصحيح المسار العدلي الدولي.

ثم أننا نبحث عن تطوير الأدوات الناعمة غير العسكرية مثل الدبلوماسية الشعبية والمثقفة، وبناء قدراتها من أجل تحقيق العدالة والسلام الدوليين.

كذلك نأمل أن يتم تعزيز الشفافية والمساءلة من خلال مؤسسات جماهيرية، أو إنشاء محاكم جماهيرية واقعية وسيبرانية تضع المنظمات العدلية الدولية في قائمة الاتهام كونها فشلت في إيقاف المجازر في تجربة شاهدها العالم على الهواء، وكثير من الدول والمؤسسات قامت بالفعل بتوثيقها علمياً وقضائياً.

على المفكرين السعي حثيثاً من أجل تطوير إطار أخلاقي واضح يُلزم رعاة القانون الدولي بالانحياز للعدل وإلا محاربتهم إعلامياً وملاحقتهم عبر الجماعات الضاغطة، وفرض العقوبات الشعبية والمؤسسية عليه.

إننا هنا لا ندعو إلى فوضى، فالفوضى خلقها هذا النظام العالمي الجائر، بل ندعو إلى صحوة كبيرة في تطبيق معايير أخلاقية واضحة بل وشجاعة من أجل تحقيق أهدافها في تعزيز السلام وحقوق الإنسان. أو لتكفر المؤسسات القضائية الدولية بمناهجها الانحيازية وإلا فالطريق واضحٌ بيّن أمام من يسمون حماة القانون الدولي الإنساني ورعاته، عليهم هم ومؤسساتهم الاتجاه فوراً إلى مزبلة التاريخ.

اخبار ذات صلة