في سوق النصيرات الشعبي، وسط قطاع غزة، يجلس أبو سائد الشقرة خلف صندوق زجاجي يعرض داخله مشغولات ذهبية متلألئة تمثل مصدر رزقه الوحيد.
تلك القطع الثمينة، التي عمل على جمعها عبر سنوات من العمل الدؤوب، كانت حتى وقت قريب كنزه الآمن، لكنها أصبحت اليوم جزءا من محاولته للبقاء بعد أن اضطرته الحرب لمغادرة منزله، الذي تحول إلى ركام تحت وطأة القصف، لينتهي به المطاف لاجئا في وسط القطاع.
إن حالة الفوضى وانعدام الأمان نتيجة الحرب تسببت في تأخير عودة الشقرة مزاولة تجارته، إذ يخشى على بضاعته من السرقة وسط انهيار المؤسسات الرسمية، بما فيها أجهزة الشرطة والقضاء لكنه، مضطرا، خرج إلى السوق بحثا عن لقمة عيشه، رغم المخاوف التي ترافقه من تراجع الأمان وانعدام الضمانات لحماية ممتلكاته.
يقول الشقرة بملامح يعتريها القلق، "تأثرت تجارتي بشكل كبير، كنت امارس مهنتي في سوق الذهب التاريخي الذي تعرض لضرر كبير بسبب الحرب".
ويروي الشقرة لـ"فلسطين أون لاين" كيف تمكن من الفرار بمقتنياته الذهبية قبل أن تشدد قوات الاحتلال قيودها على الحواجز الاصطناعية، حيث واجه الكثيرون مصادرة أموالهم ومجوهراتهم، في مشاهد لم ينجُ منها إلا من استسلم للأمر الواقع، متخليا عن ممتلكاته.
ليس ببعيد، يتحدث بائع آخر للمشغولات الذهبية، "أبو قصي"، عن حالة الركود في السوق بسبب ارتفاع أسعار الذهب، حيث وصل سعر الجرام إلى 50 دينارا، مع خصومات بسيطة عند شراء الذهب من الزبائن.
ويقول أبو قصي لفلسطين أون لاين: "لقد دمرت الحرب مواسم البيع كالأفراح والأعياد وحفلات التخرج التي كانت تضفي الحياة على تجارتنا".
ويشير أبو قصي إلى أن الأوضاع الاقتصادية في بداية الحرب دفعت الناس إلى بيع مقتنياتهم الذهبية لتأمين السيولة، إلا أن الأوضاع بدأت بالتغير مع مرور الوقت، وبدأت فئة من المشترين تظهر لاقتناء الذهب كملاذ آمن يحفظ قيمة أموالهم وسط التدهور المستمر للأوضاع.
ومن جانب آخر، تقول السيدة أم عدلي العداسي إنها تفضل شراء الذهب من محلات ذات سمعة معروفة، وتتحاشى الشراء من البسطات خوفاً من الوقوع في فخ التزييف.
تضيف العداسي لفلسطين أون لاين: "أسعار الذهب مرتفعة للغاية، ويشكل البيع الآن فرصة ممتازة لمن يملك الذهب ويرغب في الاستفادة من الأسعار الحالية، فقد اشتريت الجرام سابقا بسعر 35 ديناراً، والآن يُباع بسعر يقارب 47 دينارا، مما يجعل البيع مجدياً لتحقيق ربح".
ويعزو التجار الارتفاع المستمر لأسعار الذهب إلى عدة عوامل، أبرزها نقص الكميات المعروضة نتيجة الحرب وإغلاق المعابر، مما يعيق استيراد الذهب من أسواق الضفة الغربية والخارج.
ويتخطى اقتناء الذهب في قطاع غزة من مجرد زينة إلى ملاذ فهو أمان اقتصادي.
قبل اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر، كانت غزة موطنا لنحو 40 مصنعا وورشة لصناعة الذهب، والتي تمثل جزءا حيويا من اقتصاد القطاع. ورغم إمكاناتها الإنتاجية التي تصل إلى 200 كيلو جرام من المشغولات الذهبية أسبوعيا، إلا أن الحصار المفروض على القطاع قد ألحق ضررا بالغا بها، حيث تسبب في نقص حاد في المواد الأساسية والمعدات اللازمة لتطوير الحرفة، مثل الأحماض، والمكابس الحرارية، والقطع الدقيقة المستخدمة في النقش.
وتشير بيانات وزارة الاقتصاد الوطني إلى أن 95% من واردات المعادن الثمينة الشهرية التي كانت تصل للفحص والدمغ هي من الذهب، بينما تشكل الفضة نسبة 5% فقط، مما يعكس الأهمية الكبيرة لصناعة الذهب في قطاع غزة ومدى اعتماد السوق المحلي عليها كملاذ اقتصادي رئيسي.