رفض النزوح مع عائلته وأصر على البقاء بمخيم جباليا شمال القطاع ليداوي جراح المصابين، لم يكن ينتظر وصول المصابين للنقاط الطبية بل كان يذهب هو بنفسه، يركب عربات حيوانات أو يسير مشيًا بين ممرات المخيم يحمل روحه على كفه لأجل تأدية واجبه الإنساني، لا يهمهم بماذا يصل للمكان المستهدف، فكان همهم أن يصل.
في مشهد فدائي ملحمي، كان المسعف أحمد طلب النجار يتقدم بضعة أمتار ليسحب جثمان الشهيد سامي جبر الذي وثق بمقطع مرئي، ثم يتراجع من طلقات الاحتلال ورصاص مسيرّاته التي كان يعاندها متسلحًا بإرادة صلبة ومهنة علمته معنى خدمة الإنسان المكفولة بالقوانين الدولية، التي لم يحترمها عدوه، ثم يعاود التقدم ويسحب الجثة بضعة أمتار للخلف، فيتعرض لإطلاق نار، يتوقف، ثم يحاول، ويناور المسعف إلى أن سحب الجثمان بين زخات الرصاص ونقله، قبل أن تنهشه الكلاب الضالة أو يقع تحت جنازير الدبابات، وكان يمكن أن يكون شهيدًا وقتها.
صبيحة 15 أكتوبر/ تشرين أول 2024، كان النجار على موعد مع مهمته الأخيرة، فتوجه باكرًا إلى منزل يعود لعائلة "السيد" تعرض للاستهداف قبلها بيوم واستشهد عدد من أفراد وأصيب عدد آخر، وظل المصابون يطلقون نداءات استغاثة على مدار يومٍ كامل.
وصل المكان بعدما قطع شوارع خالية من أي حركة، وأجرى إسعافات أولية للمصابين بعدما قام بإزالة الركام وضمد جراحهم، لكنها كانت نهاية قصة المسعف الذي ضمد جراح المصابين ونزف فهو في الشارع حتى ارتقى شهيدًا.
يروي فادي خليل لموقع "فلسطين أون لاين" الحدث الذي وقع بجوار منزله بمخيم جباليا قائلًا: "فجر جيش الاحتلال برميلا متفجرا في بيت جيراننا لعائلة السيد فاستشهد بعضهم والبعض الآخر بقي يناشد تحت الردم وكنا نسمع نداءاتهم ونتواصل مع الدفاع المدني لإخراجهم".
وأضاف وهو يستعيد تفاصيل الحدث الأليم: "مع تأخر حصول الدفاع المدني على تنسيق من قبل "الصليب الأحمر" ومع صبيحة اليوم التالي قدم المسعف أحمد النجار للمكان وأجرى إسعافات أولية للمصابين من عائلة السيد وكانوا أم وأطفالها، وأثناء محاولته الخروج بهم قصفتهم الطائرة على مدخل بيتنا، واستشهدوا جمعيا".
كان المشهد مروعًا بالنسبة لخليل وهو يرى جثث الأطفال ممددة أمامهم، توقع أن يكون منزله الهدف التالي، فاتخذ قرارًا بالمغادرة بين ممرات الموت.
المهمة الأخيرة
بقلبٍ يكويه الفقد يستذكر والده طلب النجار آخر اتصال جمعه بنجله قائلًا: "اتصل بي قبلها بي وأخبرني أنه حصل على تنسيق لإسعاف عائلة السيد، حاولت تذكيره بطفليه وأنه يجب أن ينتبه لنفسه ويتجنب كل هذه المخاطرة، أو ينزح كما نزحنا، لكنه رفض وسلم روحه للقدر، وقال لي: "اتصل بي الساعة الثامنة صباحًا".
مرَّ الوقت بطيئا على قلب النجار الأب حتى أطل صباح اليوم التالي منتظرًا انتهاء مهمة نجله، مدركًا غدر الاحتلال وأن أي تحرك بين ممرات المخيم قد يكون الأخير، "اتصلت به الساعة الثامنة ولم يرد، انتظرت وقتًا إضافيًا، ثم اتصلت بأحد أقاربنا ليطمئننا عليه، فتفاجأت باستشهاده وكان وقع الخبر صادمًا علينا، كنت أنتظر صوته وليس خبر نعيه".
يحكي والده نقلًا عن شهود عيان وجيران في المكان صورة أخرى لمشهد الاستشهاد: "وصل ابني للمكان وقام بإجراء إسعافات أولية للمصابين، ونقل مجموعة منهم، ثم عاد ونقل المجموعة الأخرى وكان يحمل طفلا صغيرا وأثناء سيره بين ممرات المخيم جرى استهدافهم من طائرة حربية إسرائيلية بدون طيار استشهد ابني على الفور واستشهد بعض المصابين، ويرجح شهود العيان نجاة الطفل الصغير".
رسمت قصة استشهاد المسعف النجار صورة أخرى للملحمة، وسلطت الضوء على تفاني الطواقم الطبية التطوعية محاولين إسعاف المصابين في مخاطر كبيرة، يقدم الواحد فيهم روحه على كتفه، في ظل استهداف كل معالم الحياة الأمر الذي أدى لاستشهاد1800 مواطن وإصابة 4 آلاف مصاب معظمهم لم تجر لهم عمليات جراحية، منذ بدء الهجوم. وفق معطيات حكومية بغزة
استخدم النجار كل الوسائل المتاحة للوصول إلى المصابين، محاولاً تعويض منع سيارات الإسعاف التوجه لأماكن الاستهداف، فلم يجد سوى عربة يجرها حيوان، استخدمها في نقل المصابين من عائلة "أبو صقر" بعد استهداف منزلهم من قبل جيش الاحتلال أدى القصف لاستشهاد بعضهم، وإصابة آخرين من العائلة الذين لم يتوقفوا عن إطلاق نداء استغاثة على مدار يوم كامل خلال العدوان الحالي على شمال القطاع.
روحه على كتفه
نجح المسعف النجار الذي تحلى بشجاعة كبيرة في نقل المصابين بعد التوجه للمكان المستهدف لعائلة أبو "صقر"، بعد حصوله على تنسيق من اللجنة الدولية للصليب الأحمر لإتمام مهمته الإنسانية، وسبقها الكثير من المحاولات التي حدث والده عنها: " كان يخاطر بحياته وأحيانا يبذل جهدا كبيرا مع مساعدة بعض أفراد من الدفاع المدني في إزالة الركام ونقل المصابين ثم إجراء الاسعافات الأولية ميدانيا، ويحاول الاستجابة للنداءات، ما زاد مخاوفنا عليه، تحدثت معه بأن لا يتحرك لأجل طفليه الصغيرين "زين (5 سنوات) وشام (7 سنوات)"، وأن يغادر وينزح معنا، لكنه رفض وأصر على البقاء لإسعاف المصابين ونقلهم إلى أن دفع حياته ثمنا لذلك".
عمل النجار حكيمًا في مستشفى الرنتيسي ومستشفى الإندونيسي شمال القطاع بعدما أنهى دراسته الجامعية بتخصص تمريض من الجامعة الإسلامية، ومع صعوبة الوصول إليه خلال التوغل الإسرائيلي الحالي، والتي يمارس خلالها عملية تطهير عرقي للسكان، تطوع في نقطة طبية داخل مدرسة في منطقة سكنه الواقعة في "بئر النعجة" إلى الغرب من مخيم جباليا.
ولم يكن البكالوريوس جل طموحه، فدرس ماجستير إدارة "أزمات وكوارث صحية"، ليجد ما تعلمه على الورق ماثلاً أمامه واقعا حقيقيًا، آثار دهشة والده: "كنت أسأل نفسي، عن الدوافع التي تجعل نجلي يخاطر بحياته بالرغم من الخوف والقصف الشديد والمخاطرة، وكان طموحه بأن يكمل الدكتوراه في السودان وسعى إلى ذلك لكن تعقيدات الحرب حالت دون ذلك".
بعد مرور قرابة شهر على استشهاده، شد بكاء طفلته "شام" انتباه جدها وجدتها، اعتقدا أن شيئًا قد أزعجها لكن إجابتها كانت مختلفة: "اشتقت لبابا"، وهو الذي قال لطفله زين في آخر مكالمة هاتفية قبل ذهابه لإسعاف مجزرة عائلة السيد سعيدًا بطلاقة حديثه: "والله هيك كبرت فكرتك شام"، التي قالت له نفس الكلمة خلال المكالمة: "اشتقتلك يا بابا"، ليرحل دون أن تروي ظمأ شوقها بحضنٍ وقبلة منه.
مواقف كثيرة تخزنها ذاكرة النجار عن فدائية نجله، ففي الاجتياح الثاني لجيش الاحتلال لمخيم جباليا، بقي في المخيم لإسعاف المصابين، لكنه بين فينة وأخرى كان يتنقل بواسطة دراجة هوائية لزيارة والديه وطفليه الذين نزحوا لمخيم الشاطئ بمدينة غزة، والعودة لحيه.
أسهم النجار بإنشاء عيادة أسنان بمنطقته لخدمة أبناء الحي، فضلا عن تطوعه في نقطة طبية وبمؤسسة إغاثية للأطفال، يخدم أي شخص يتوجه إليه، ويجري غيارات للجروح، ويوقف نزيف المصابين، وكان يعود بساعات متأخرة إلى البيت نتيجة انغماسه في الفرق الطبية لعلاج الأطفال بالأمراض الجلدية وسعيه الدؤوب لتوفير العلاج لهم بمحافظة الشمال.
البطولة التي سجلها النجار، سبقها مشاهد عالقة بذاكرة والده، إحداها عندما استهدفت طائرات الاحتلال رجلا وابنه، وتوجه للمكان وأوقف المسعف نزيف الأب المصاب ونقله للمشفى بينما استشهد الشاب، وفي حادثة أخرى نقل شهيدا من عائلة طبابة قصفه الاحتلال أثناء ذهابه لإحضار أغراض من منزله، وهذا ما يخفف حزن والده: "ابني ضحى بروحه لأجل المصابين والشهداء، وهذا شرف نلته وأفتخر به".