أكد الخبير في الشؤون القانونية والقانون الجنائي الدولي، د. عصام عابدين، أن استخدام الاحتلال "الإسرائيلي" التجويع كسلاح ضد السكان المدنيين في قطاع غزة، يُعد جريمة حرب موصوفة في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وأوضح عابدين في حوار مع "فلسطين أون لاين"، أن المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة تصنّف "التجويع" كجريمة حرب موصوفة بأركانها وعناصرها القانونية، مشيرًا إلى أن إدراج هذه الجريمة ضمن القانون الدولي يعكس خطورة استخدامها ضد المدنيين، حيث يتيح للمحكمة الجنائية الدولية ملاحقة مرتكبيها ومحاسبتهم.
تواطؤ غربي
وأشار إلى أن البيان الصادر عن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، في 20 مايو 2024، قد تضمن اتهام رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير جيشه يؤاف غالانت بجريمة التجويع، كإحدى الجرائم المنصوص عليها في طلبات المدعي العام المرفوعة إلى الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة، والتي تسعى لاستصدار مذكرات اعتقال بحقهما.
وبيّن أن الدور الذي تلعبه بعض الدول الأوروبية، وخصوصاً ألمانيا، إلى جانب الولايات المتحدة، في هذا السياق ليس مقتصراً على الدعم العسكري والاستخباري لعمليات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، بل يمتد إلى عرقلة سير العدالة في المحكمة الجنائية الدولية، لافتًا إلى أن هذه الدول تقوم بتقديم طلبات ودفوع للدائرة التمهيدية بهدف إغراقها وتعطيل الإجراءات القانونية اللازمة لإصدار مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت وآخرين من قادة الاحتلال، مما يعزز من ثقافة الإفلات من العقاب.
وأشار إلى أن الدائرة التمهيدية الأولى لم تصدر مذكرات الاعتقال المطلوبة منذ مايو 2024 وحتى اليوم، رغم أن المحكمة أصدرت مذكرات اعتقال في حالات أخرى، كالملف الأوكراني- الروسي، خلال مدة زمنية قصيرة لا تتجاوز عشرين يوماً.
وقال الخبير في القانون الجنائي الدولي: إن هذا التباطؤ يعكس تواطؤًا سياسيًا، لا يقتصر على المشاركة الفعلية في جرائم الإبادة الجماعية، بل يمتد إلى تعطيل المسألة والمحاسبة القانونية، مما يرسخ ثقافة الإفلات من العقاب على المستوى السياسي.
وأكد عابدين أن استخدام التجويع كسلاح كان الأداة الأبرز التي اعتمدت عليها (إسرائيل) منذ بدء عدوانها على قطاع غزة، بهدف تهجير السكان المدنيين قسريًا، موضحًا أن التهجير القسري يُصنَّف كجريمة حرب بموجب القانون الجنائي الدولي، ويُضاف إلى جريمة التجويع، مما يجعل التجويع وسيلة مركزية لهدف رئيسي يتمثل في التهجير.
تهجير السكان
وأشار إلى أن تواطؤ بعض المنظمات الدولية وأجهزة الأمم المتحدة ساهم في إفساح المجال لاستمرار هذه الجرائم على مرأى من العالم، بسبب غياب الحماية والدعم للفلسطينيين في غزة، معتبرًا أن هذا التخاذل الدولي عمّق من استخدام هذه الوسائل بالشكل المرعب الموجود في القطاع.
وأضاف أن عددًا كبيرًا من الجرائم الدولية ارتكبت في غزة، بدءًا من استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية والمستشفيات، وسط حذلان دولي، مما يُشجع الاحتلال الإسرائيلي على تعميق ارتكاب هذه الجرائم الدولية بهدف مركزي واحد هو تهجير السكان.
وتابع أن الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تمارس عرقلة واضحة للمساءلة القانونية عبر أساليب سياسية وقانونية، مما يعكس الوجه الحقيقي للثقافة الاستعمارية الدموية بكل ما تعنيه الكلمة والتي تسعى إلى الإفلات من العقاب وتجاوز حقوق الشعوب. واعتبر أن هذه السياسات تُظهر بوضوح التاريخ الاستعماري الدموي بكل تجلياته للغرب، حيث تُعدّ الدموية مكون أساسي من تاريخهم.
وبين أن الشعوب الواقعة تحت الاستعمار، مثل الشعب الفلسطيني، تجد خياراتها محصورة بين الاستسلام أو المقاومة حتى النهاية، مشددًا على أن حركات التحرر الوطني لا تملك إلا خيار المقاومة، وهو حق مكفول ضمن حق تقرير المصير الذي يُعد من القواعد الآمرة في القانون الدولي.
طبيعة المساعدات
وفيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية المقدمة إلى غزة، أشار عابدين إلى أهمية التركيز ليس فقط على عدد الشاحنات التي وصلت، بل أيضًا على طبيعة هذه المساعدات، موضحًا أن هناك مواد أساسية منقذة للحياة، مثل المكملات الغذائية، التي لا تدخل ضمن هذه المساعدات، في ظل الآلاف من ذوي الإعاقات الذين يحتاجون إلى دعم إضافي.
وأكد عابدين أن طبيعة المساعدات المقدمة يجب أن تخضع للنقاش، ويجب أن تكون هناك أولويات حقيقية تلبي احتياجات السكان المتضررين، وليس فقط التركيز على حجم المساعدات، كما يجري تداوله في وسائل الاعلام.
وأشار إلى أن تعميق الأزمة من خلال خلق الفوضى وسرقة المساعدات يُعدّ جزءًا من استراتيجية تهدف إلى تهجير السكان. وتساءل عما يُسمى بـ"مرحلة ما بعد الإبادة" والحرب على غزة، مؤكدًا أنه لا يمكن التفكير في مرحلة ما بعد الإبادة دون أن تتوقف الإبادة نفسها أولًا.
وفي معرض حديثه عن قيود الاحتلال على المواد الغذائية المسموح بدخولها، أشار عابدين إلى أن هذه السياسات تؤدي إلى تفاقم الأوضاع الصحية وسوء التغذية، خاصة في سياق الإبادة الجماعية، لافتًا إلى أن الإجراءات المتخذة غالبًا ما تهدف إلى ذر الرماد في العيون، حيث يُزعم أن المساعدات المقدمة تُحسّن الوضع، بينما في الحقيقة تُسهم في تدهور الوضع الصحي وسوء التغذية، خصوصًا بين الفئات الهشة مثل الأطفال وغيرهم تحت عنوان مضلل اسمه "المساعدات".
وشدّد على أهمية أن تتضمن المساعدات أغذية منقذة للحياة والمواد الأساسية المرتبطة بصحة الإنسان، مؤكدًا أن الدعم يجب أن يلبي الاحتياجات الفعلية للسكان المتضررين وليس أن يكون مجرد غطاء يُستخدم لتجميل الواقع الصعب الذي يعيشونه.
دبلوماسية عجوز
وحول تحرك السلطة الفلسطينية في رام الله، أشار عابدين إلى أنه منذ بدء العدوان على غزة لم يُلمس أي تحرك فلسطيني رسمي جاد بعيدًا عن النمط التقليدي الذي عفا عليه الزمن، والذي يقتصر على إصدار البيانات والتصريحات، معتبرًا أن الدبلوماسية الفلسطينية قد أصبحت "عجوز" وغير فعالة في مواجهة التحديات الحالية.
وأكد أن العقبة الأساسية تكمن في عدم وجود إرادة سياسية جادة لتحمل المسؤولية واستعادة الوحدة الوطنية، وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، وخاصة في قطاع غزة، من خلال دعمهم سياسيًا ودبلوماسيًا وماليًا وبكل الاتجاهات.
وأوضح أن منهجية التفكير السائدة تتمحور حول انتظار ما سيكون بعد الإبادة الجماعية، وقياس الأمور بناءً على اليوم التالي، وهو ما تشترك فيه السلطة الفلسطينية مع المحيط العربي، مما ينتج عنه معادلة واضحة من عدم الفعالية.
وأشار إلى أن قطاع غزة محاصر منذ 18 عامًا، حيث يتحكم الاحتلال في السعرات الحرارية التي تصل إلى سكانه، مؤكدًا أن التجويع ليس أمرًا جديدًا على القطاع، بل هو استمرار لسياسة الحصار القاتل والتحكم بالسعرات الحرارية.
وشدد على أن التجويع في قطاع غزة ليس مقترنًا بالعدوان الأخير، رغم أنه قد برز إلى السطح بقوة خلال هذه الفترة، بل هو سياسة ممنهجة تُمارس منذ سنوات، مؤكدًا أن موقف الجانب الرسمي الفلسطيني لا يختلف كثيرًا عن موقف الدول التي تشارك في ارتكاب هذه الجرائم الدولية، بما في ذلك التجويع، حيث يبدو أنهم ينتظرون ما ستؤول إليه الأمور، بدلاً من أن يكونوا شركاء فعليين في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني، خاصة سكان قطاع غزة.
وختم عابدين حديثه بالقول: إن هموم المسؤولين في السلطة في رام الله لا تتعلق بمصير الشعب الفلسطيني في الوقت الحالي، بل يبدو أن تفكيرهم مشغول بما يُسمى "اليوم التالي"، حيث يركزون على قياس الأمور بناءً على مآلاتها.