قائمة الموقع

محاسن الخطيب.. ريشة فنَّان امتزجت بلون الدَّم

2024-10-23T16:42:00+03:00
محاسن الخطيب.. ريشة فنَّان امتزجت بلون الدَّم

رسمت صور للدمار، وعاشت على مدار عام بين حصار وجوع وتشرد وقصف، آخر ما كتبته كانت تتساءل: "قل لي شعورك عندما ترى أي شخص يحترق!؟" مرفقة السؤال بصورة كرتونية لشخص يحترق بالنار جسدتها لإحراق جيش الاحتلال خيام النازحين بمستشفى شهداء الأقصى، وتحديدا للحظة استشهاد الشاب شعبان الدلو في الصورة التي حظيت بانتشار عالمي.


لم يكن تفاعل الخطيب بتلك الرسمة هو الأول وإن كان الأخير، فطوال عام سخرت ريشتها وموهبتها في الموشين جرافيك، في إظهار معاناة أبناء شعبها وإظهار جرائم الاحتلال بحقهم، فرسمت عن الجوع، والموت، والإبادة، والصمود، مستخدمة الفن كسلاح في مواجهة الرواية الإسرائيلية، وكانت على موعدٍ أن تتداول صورتها هي الأخير في نعي واسع لأصدقائها، إذ لم يتأخر رد الاحتلال على سؤالها الذي أجابه بصاروخ حارق.

فليلة 19 من أكتوبر/ تشرين أول 2024، وأثناء خروج محاسن من غرفتها بعد أداء صلاة العشاء باتجاه صالون منزلها الواقع منطقة تل الزعتر شمال قطاع غزة، وقع انفجار ضخم بعد إلقاء جيش الاحتلال برميل متفجر على منزل جيرانهم الملاصق لبيتهم فانهار جزء كبير منه، استشهدت محاسن على الفور وأصيب معظم أفراد عائلتها.

ميلاد ورحيل

بأدوات بسيطة وبأيديهم وبوسائل بدائية وبعد عدة ساعات من إزالة الردم، انتشل جثمان محاسن ودفن بمقبرة بجوار مستشفى كمال عدوان وبصعوبة عثرت عائلتها على كفنٍ لها، وكأنها كانت تتوقع استشهادها فاختارت صورة لها ونشرتها على صفحتها على فيسبوك في يناير/ كانون ثاني الماضي : "عشان بس أموت تلاقوا صورة اللي" كي يجدها أصدقاؤها في حال استشهادها، مدركة أن لا أمان في غزة في حرب إبادة تقتل كل حلم، وتطفئ ألوان الحياة التي لطالما رسمتها محاسن في ريشتها، لتسقط الريشة وتمتزج بدماء صاحبتها في مشهد لطالما رسمته والآن تكتبه بدمائها.


 

ولدت محاسن في 10 أكتوبر، واستشهدت بعد تسعة أيام من ذكرى تاريخ ميلادها، ليحتضن الشهر ذكرى الاستشهاد والميلاد معًا، يوم ذكرى ميلادها، نشرت على صفحتها وهي ترفق صورا سابقة لصورها وهي توقد شمعة ميلادها الـ 32، تعبر عن سعادة عائلتها بهذه المناسبة، وقالت بحسرة: "كانت ايامي محلاها10 اكتوبر مفترض يوم عظيم الي، ولكنه يوم محاصرة فيه".

في يوم ميلادها، وصفت الحياة حولها في منشور نشرته أيضا: "مغلقين على انفسنا كل النوافذ بستارة وفوقها شرشف سرير. ظلام شديد بالمنزل، خوف شديد من الاصوات القريبة للقصف العنيف، وخوف اعظم من المجهول".

من شدة القصف وصلت محاسن لمرحلة لم تعد تخشى فيه الصواريخ، فأقرت بمنشور آخر في نفس الذكرى "بس اسمع الصاروخ بطلت اشرد عند امي ولا اقوم من مكاني ولا اغطي داني بايديا ولا اغمض عيوني.. مش عارفة قوة ولا تعود ولا جبروت الي احنا فيه".

قبل استشهادها بأربع ساعات، أرسلت محاسن تسجيلا صوتيا ترد فيه على أسئلة شقيقتها أنوار النازحة لمدينة دير البلح، بكلمتين طمأنت مخاوفها: "احنا بخير. تقلقيش"، وقبلها بيومين تحدثت معها عن طريق الفيديو في حديث مطول تستحضره أنوار بحضور دموع اختنق بها صوتها، قائلة: "كانت توصيني على بناتي اللواتي تحبهن حبا كبيرا، وهي شاركتني في تربيتهن على مدار حياتها، وكانت تتعهد بمساعدتي في شراء خيمة لمواجهة فصل الشتاء".

كان الخوف والقلق هو الشعور الملازم لحديث محاسن مع شقيقتها، وهذا ما أدركته الأخيرة أيضًا، تقر بصوت مغلف بالألم: "كنت دائما أتحدث معها في منتصف الليل وكان القصف يسرق نومها في آخر أيام، دائما أشعر بخوفها وقلقها بسبب الأهوال التي تحدث حولها من قصف وتدمير مستمر، وأحزمة نارية لا تتوقف توقع القلب".

 

 

 

موهبة كبيرة

لا أحد عايش طموح محاسن وموهبتها بمقدار شقيقتها التي تعدها "توأمها" رغم أن أنوار تكبرها بثلاث سنوات، فمنذ صغرها تعلقت بالرسم، ورغم إجبارها على دراسة الرياضيات إلا أنها في السنة الدراسية الثالثة، عادت لتكمل حلمها بالرسم فحصلت على دورات إضافية في مجال "موشن جرافيك" (رسوم متحركة بالحاسوب) بدأت العمل برواتب زهيدة ثم تهافتت عليها شركات خارجية بعدما اثبتت جدارتها في هذا المجال، إلى حد وصلت أن تعطي دورات تدريبية لخلق أجيال في عالم التصميم، ونشرت دورة مجانية عن روحها حال استشهادها عبر الانترنت.

تقول شقيقتها بنبرة فخر يرافقها صوت البكاء: "استخدمت شقيقتي الفن كسلاح، فكانت توثق القضية وتخلق من أي معاناة قصة بالرسوم، فجسدت الحرمان من الطعام والطهي على الحطب وعدم توفر مأوى وحياة الخيام، وكانت تؤثر بالمجتمع والعالم الخارجي".

إضافة لرسوم الموشن جرافيك، رسمت محاسن على القماش والتطريز بالألوان، تصفها شقيقتها بأنها "فنانة عظيمة وخسارة كبيرة للعائلة وللشعب لما تمتلك من موهبة كبيرة".

في وقت كانت تعيش العائلة ظروفا صعبة نتيجة الحصار والبطالة، كانت محاسن سندا للعائلة، تساعدهم في مصاريف الحياة، عن ذلك تقول أنوار: "حملت حملا ثقيلا على كاهلها، وكانت تقدم كل شيء بقلب محب راض، ورغم اني متزوجة وبعيدة عنهم كانت دائم التواصل معي وتفقد أحوالي والتكفل بمصاريف تعليم أبنائي، حتى أنها واصلت ذلك خلال الحرب رغم أني بعيدة عنها".

من المواقف التي تحضر ذاكرة أنوار، أنها كانت تتمنى حمل هاتف من نوع "آيفون" وكانت تمازح محاسن في إحدى المرات "نفسي بهالتفاحة"، وفجأتها في يوم بالهاتف وكانت تعتبره هدية ثمينة من شقيقتها، لكنه تحطم بقصف منزلها شمال القطاع

في صفحتها التي كانت مساحة تعرض فيها شخصيتها وانجازاتها تجدها إنسانة مفعمة بالأمل متحدية لكل الظروف كيف لا وهي التي بقيت صامدة داخل منزلها حتى آخر رمق، قالت عن ذلك: "ما طلعنا من البيت، قررنا نظل، لانه بعد ما عشنا النزوح مرات، عارفين انه لا مفر، واينما تكونوا يدرككم الموت".

تشبثت بالصمود وتسلحت بالصبر لأنها أدركت أن القريب والبعيد تخلى عن الشعب الفلسطيني فقالت بعفوية: " عمي حكا، احنا العرب بأعونا قبل اليهود، ولو فيهم خير لانتهت هالحرب زمان، فما النا إلا رب العباد".

كانت ترى محاسن أن "على الإنسان أن يكون صارمًا في كثيرٍ من علاقاته، وأَولى هذه العلاقات بالصرامة نفسهُ، فإن النفس إذا تُركتْ أهلكتْ" هذا عبارة نشرتها، وذكرت في أخرى وهي تعرض رسوماتها: "ما خلقنا لنيأس، خلقنا لنقف على شرفة الحياة ونخوضها مطمئنين واثقين بالله وعلى أمل".

إنسانة مكافحة

ويصفها مدير شركة تيلي تاونز محمد أبو أمونة والتي عملت معه، بأنها إنسانة كانت تكافح الحياة لتصنع الحياة ليس لذاتها فقط وإنما لعائلتها ومحيطها، كانت تحمل عائلتها على كتفيها وتهتم لأدق تفاصيلهم واحتياجاتهم عن طيب قلب وخاطر امرأة تعلم الرجال كيف تكون المواقف وكيف تكون الانسانية وكيف تكون الأخوة والصداقة لدرجة ان تشعر أن كل من في قطاع غزة صديق لها.

يقول أبو أمونة لموقع "فلسطين أون لاين": " كل من تقابله يذكرها بالخير وأن له مواقف طيبة معه وقدمت له من علمها وخيرها ولم تبخل على احد حتى في وقفتها تشارك جميع المحيطين فيها مشاعرهم وتدخل الفرحة على قلوبهم بابتسامتها ولهذا تجدها سر الجميع فالكل يشعر بالراحة لها ويطمئن على سره عندها محاسن وفي اسمها الصفة هي كذلك بالفعل".

كانت محاسن في بدايتها ترسم جداريات والرسم الورقي وفي بدايات انتشار الموشن جرافيك كتخصص جديد في السوق "كنا قد اعلنا عن حاجتنا لرسامين وكانت من مبين المتقدمين وتم إختيارها بعد اجتياز اختبار موهبة وكان واضح موهبتها وبعد ذلك بدأت تحديات البداية في التعلم لهذا التخصص والانتاج بالجودة والسرعة والكفاءة".

في كل مرة كانت تثبت انها المميزة التي تسير نحو الاحتراف والتميز فلقد كانت من الجيل الأول المبدع في مجال الرسم الجرافيكي وبعد ان اتقنته وتميزت به، وكان حلمها أن تنشئ مشروعها الخاص بإنشاء شركة موشن جرافيك وبدأت الخطوات الأولى لذلك، لكن حلمها لم يكتمل بسبب الحرب.

 لم تبخل في علمها على أحد، وفق أبو أمونة، فبدأت تعليم متدربين وموظفين جدد وحتى أصبحت محترفة في كيفية تقديم المادة العلمية والتدريبية في المجال إلى أن أصبحت تقدم دورات على المستوى المحلي والدولي فلها العديد من الطلاب في الدول العربية التي تعلموا على ايديها واتقنوا المجال من خلالها محاسن كانت مدرسة لوحدها في "تصاميم" الرسم الخاصة بها وما تقدمه من علم في مجالها.

اخبار ذات صلة