كان مشتبكًا، يرتدي جعبة حرب، وعلى جانبيه سلاحه، يقف في الخطوط الأولى للقتال بمحافظة رفح يواجه جنود جيش الاحتلال وجهًا لوجه، بينما ينشغل الاحتلال بالبحث عنه بكافة أجهزة التجسس والتعقب طوال عام كامل،ولم يدرِ أنه يقف أمام دباباتهم متنقلاً بين ساحات وميادين القتال.
أطلقت الدبابة الإسرائيلية قذيفة على بيتٍ يتواجد فيه مقاوم، ثم أرسلت طائرة "درون" لمعرفة من بداخله، فاقتربت من ملثم يرتدي الكوفية الفلسطينية تنزف الدماء من يديه التي ربطها بسلك حديدي وحجر محاولا وقف النزيف، يجلس على مقعدٍ في مشهدٍ لا يقل هيبة عن صورة نشرت له عندما وضع قدما فوق الأخرى وهو يجلس على مقعدٍ على أنقاض منزله متحديًا للاحتلال، فتجدد التحدي في آخر لحظاته وألقى عصا على الطائرة بعد اشتباك مسلح، لتطلق الدبابة قذائف أخرى انهار السقف فوق الملثم.
تقدم الجنود فكانت الصاعقة واضحة، عندما أزالوا اللثام وكان المشتبك هو زعيم حركة حماس ورئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، يتقدم صفوف المقاتلين، بشجاعةٍ لم يعرفوها أو يشاهدوها في سيرة أي قائد أو جنرالٍ عسكري إسرائيلي، الذين يهرعون للملاجئ عند أول صافرة إنذار تنطلق نحو أي مكان يتواجدون فيه.
كانت هذه النهاية الشجاعة، مغايرة للشكل الذي رسمه قادة الاحتلال وخاصة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بالوصول للسنوار من خلال تعقب وإعطاء أمر بالاغتيال، ولتنسف دعاية روجها الاحتلال بأن الرجل مختبئ في أحد الأنفاق وبين المدنيين، ليتجلى الفشل الاستخباري مرة أخرى بعدم وصولهم للمطلوب الأول رغم أنه كان يقاتل جنودهم في ميدان رفح، كما تجلى فشلهم في السابع من أكتوبر عندما هندس السنوار خديعة كبرى زلزلت الاحتلال.
رسالة ملهمة
في مشهد أسطوري وملحمي تاريخي فريد، استشهد قائد طوفان الأقصى مشتبكًا، وكتب بدمائه رسالة ملهمة لأبناء الأمة وأحرار العالم لمقاومة قوى الاستعمار والصهيونية بالمنطقة، والدفاع عن فلسطين، فلم يقف العمر حائلاً أمام قائد دفع زهرات شبابه في سجون الاحتلال حتى بلغ اثني وستين عاما عن حمل البندقية وتقدم الصفوف، والالتحام في قلب المعركة.
في مخيمات اللاجئين بمحافظة خان يونس نشأ السنوار الذي نزحت عائلته من مدينة "المجدل"، فعاش معاناة اللجوء، فأسهمت الظروف الصعبة في تشكل ملامح شخصية الطفل الذي وقف شاهدًا على "نكسة 67"، وكان يسعى لإحداث تغيير "في موازين القوى".
في مدارس المخيم تلقى تعليمه وأكمل دراسته الجامعية بالجامعة الإسلامية التي تخرج فيها بشهادة في الدراسات العربية، وأكمل نشاطه التنظيمي في مرحلة الشباب بتأسيس جهاز المجد الأمني، إلا أنه جرى اعتقاله عام 1988، وحكم بالسجن أربعة مؤبدات قضى منها 23 عامًا متواصلة في سجون الاحتلال منها ما يقارب أربع سنوات في العزل الانفرادي.
دفع الشاب زهرات شباب ربيع عمره الأول داخل السجون، فاعتقل ولم يزد عمره عن 26 عاما، ورغم ذلك تكيفت حياته مع ظروف السجن فعاش بين الأسرى "كان أخًا لهم وشخصا متواضعًا" كما يقول رفاق له، ومع إدارة السجن كان صلبًا لا يتعامل معها حتى عندما تدهورت حالته لم يلجأ لعيادة السجن إلا بضغط من رفاقه بعد وصول حالته لمستوى خطير، وهذا يفسر شخصيته الحادة جدا تجاه المحتل حتى في أحلك الظروف التي تعلقت بصحته.
نال السنوار المكنى "أبا إبراهيم" حريته في صفقة وفاء الأحرار وتحديدًا في 18 أكتوبر/ تشرين أول 2011، والذي اعتبر الولادة الثانية للرجل، وهذا التاريخ سبق يوم واحد من ذكرى استشهاده في 17 أكتوبر 2024، وبعد عام واحد من العبور الملحمي "طوفان الأقصى" في 7 من أكتوبر2023، وعلى بعد أيام قليلة من ذكرى ميلاده التي توافق 29 أكتوبر 1962، ليكتب الرجل أمجاده في أكتوبر.
أصبح السنوار رئيس المكتب السياسي لحماس في 6 آب/ أغسطس 2024 بعد اغتيال إسماعيل هنية، وكان قبل ذلك رئيسًا لمكتبها في قطاع غزة منذ 13 فبراير/ شباط 2017، وأحد مؤسسي الجهاز الأمني لحركة حماس عام 1985 وعرف باسم "مجد".
مسيرة حافلة
كان رحيله شهيدًا أمنية كررها السنوار كثيرًا، ففي لقاء جماهيري قبل 3 أعوام، قال: "أكبر هدية يمكن أن يقدمها العدو والاحتلال لي هي أن يغتالني وأن أقضي شهيدا على يده، أنا اليوم عمري 59 سنة، أنا الحقيقة أفضل أن أستشهد بالـ إف16 على أن أموت بكورونا أو بجلطة أو بحادث طريق أو بطريقة أخرى مما يموت به الناس".
وكرر تحديه للاحتلال في لقاء متلفز قائلا: "تهديدات العدو لا تخفيفنا"، وأكد: "لا نخشى أن نقتل في سبيل ديننا ووطننا ومقدساتنا. دماؤنا وأرواحنا ليست أغلى من دماء أصغر شهيد قدم روحه في سبيل هذه المقدسات".
لم يذعن السنوار لتهديدات الاحتلال، فحتى عندما هدده وزير جيش الاحتلال السابق بيني غانتس بعد وقت قليل من إعلان وقف إطلاق النار بعد معركة "سيف القدس" في 11 مايو/ أيار 2021، وقال بأنه لا "حصانة" للسنواروالضيف إذا ظهرا علانية، لم يتأخر رد السنوار كثيرا ومنحه "60 دقيقة لاتخاذ قراره وإرسال طائرة الاغتيال" وقال: "لن يرمش لي جفن" وعاد لمنزله مشيًا على الأقدام تجول خلالها بشوارع غزة، والتقى بالمواطنين من كافة الأعمار الذين تهافتوا على التقاط صورٍ معه، ووصفه الكثيرون بـ "الشجاع".
خلال مسيرة حافلة بالعطاء لم يذق خلالها طعما للراحة بعد تحرره، حرص السنوار على تطوير بيئة المقاومة في قطاع غزة، وأعطى لذلك أولوية كبيرة بحكم عقليته ذات الخلفية الأمنية والعسكرية، وهو ما ظهر واضحا في الحروب الإسرائيلية العدوانية على القطاع والتي استبسلت فيها المقاومة وكبدت الاحتلال خسائر فادحة لم يتوقعها.
وكذلك سعى الرجل لترميم الحالة الوطنية الفلسطينية بتقديم حركة حماس تنازلات كبيرة لأجل تحقيق المصالحة الفلسطينية ومنها تنازلها عن الحكومة التي كانت تديرها في غزة عام 2014 فيما بعرف باسم اتفاق الشاطئ، وحلها اللجنة الإدارية عام 2017، إذ عبر السنوار في لقاءات عديدة عن توجه حركته لإنهاء المشاكل على المستوى الوطني و"تصفير الخلافات" الفلسطينية، للانتقال إلى التركيز على خدمة "المشروع الوطني الفلسطيني"، وعد المصالحة خيارا استراتيجيا لحماس.
وحرص الرجل على تعزيز حضوره الشعبي، فكان بين الفترة والأخرى يعقد لقاءات مع نخب مجتمعية وشبابية وصحفية وفصائلية وعشائرية ودينية لبلورة فكر وطني، ورؤيته للتحرر الوطني ومواجهة التحديات التي تحدق بالقضية الفلسطينية.
مثل طوفان الأقصى أو ما يعرف بعور السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023 أكبر هزيمة في تاريخ دولة الاحتلال، أدت لإسقاط المشروع الصهيوني بالمنطقة، وإسقاط فرقة غزة عسكريًا بعدما اقتحم أكثر من ألف مقاتل من كتائب القسام مستوطنات غلاف غزة ومواقع عسكرية إسرائيلية قتلت خلالها مئات الجنود والمستوطنين وأسرت نحو 200 منهم، في عملية عبور تاريخية لم يشهدها التاريخ المعاصر، كشفت عن فشل استخبارتي وعسكري إسرائيلي كبير وأحدثت زلزالا في دولة الاحتلال، كان السنوار المهندس الأبرز لهذا الهجوم التاريخي.
قبل عام واحد من الهجوم الكبير، وتحديدا في مهرجان انطلاقة حركة حماس الخامس والثلاثين، لم يفهم الاحتلال رسالة السنوار بين حشد من مئات الآلاف من الجماهير المحتشدة وظنها مجرد شعارات رنانة عندما قال: "سنأتيكم بطوفان هادر، وصواريخ دون عد، سنأتيكم بطوفان جنود دون حد، سنأتيكم بملايين من أمتنا مدًا بعد مد".
وعلى مدار سنوات سابقة من "طوفان الأقصى" أسهمت سياسة السنوار في توحيد جبهات المقاومة، وهو ما برز خلال معركة "طوفان الأقصى" بدخول اليمن وحزب الله وحركات المقاومة في العراق على خط إسناد المقاومة ونصرة غزة، عبر استهداف دولة الاحتلال بالصواريخ والمسيرّات واستهداف السفن البحرية التابعة للاحتلال في البحر الأحمر، إضافة لإطلاق إيران رشقة صواريخ باليستية، كنتيجة لمسار مقاوم استراتيجي رسمه السنوار.
حياة السجن
جمعت حياة السجون المحرر الدكتور موسى عكاري ابن مدينة القدس مع السنوار لأكثر من 15 عامًا بدأت بين عامي 1998-2000 وفي الفترة ما بين عامي 2005-2009، وطدت تلك السنوات العلاقة بين الرجلين لحد الأخوة والصداقة، إذ تعج ذاكرة عكار بالكثير مما يمكن أن يسرده عن شخصية يحيى السنوار خلال اعتقالهم في سجون بئر السبع وهداريم ونفحة.
يصف عكار في حديثه لموقع "فلسطين أون لاين" السنوار بأنه "أخ بمعنى الأخ، متواضع ولا يحب الظهور أو التميز عن إخوانه، فكان في السجن يعد الطعام لإخوانه ولأكثر من غرفة في القسم ويقوم كبقية إخوانه بمهمة التنظيف وكان يتنافس من أجل خدمة الأسرى".
كان السنوار شخصًا مثقفًا ومفكرًا ومبدعًا، يشجع الأسرى على قضاء الوقت المفيد وعدم تضييعه، تطرق ذاكرة عكار أبواب السجن قائلا: "كان السنوارصاحب قلم حيث أنه يكتب في اليوم صفحات عديدة لا نستطيع قراءتها، قلمه كان سيالا في كافة المجالات الإارية والسياسية والفكرية والدعوية والوطنية والثورية".
كتب السنوار رواية "شوك القرنفل" داخل السجون، يستذكر رفيق السجن "قرأت الرواية من خط يده في دفتر وكراس في السجن قبل أن يطبع هذا الكتاب الذي ترجمناه قبل شهرين إلى اللغة التركية، مما لقى اقبالا شديدا من الشعب التركي والقراء الأتراك".
وكان يذكر أمه دائمًا في السجن وإخوته وأخواته يصفه رفيقه بأنه كان وفيًا لمشايخه وزملائه في الجامعة الإسلامية حيث كان كثيرا ما يذكرهم بالخير، يحب أن يسمع أراء الأسرى حتى لو اختلفت مع رأيه الشخصي، ويلجأ إلى الشورى مع الأسرى.
يقول عكاري: "كان القائد السنوار محبا لشباب القدس ويعتبرهم الأقرب إلى قلبه وخاصة حبه للقدس والمسجد الأقصى وما يسكنها ومن يسكنها".
ترحل ذاكرة عكاري لأكثر المواقف الصعبة في حياة السنوار ورفيقه لعام 1999 موضحا "تعرضنا للشبح الطويل الذي استمر لأكثر من شهر ونصف في قسم التحقيق بسجن عسقلان، وكان السنوار صامدا صلبا كالصخر وقد بقي هو آخر واحد في الشبح، وكنا نسمع ضباط المخابرات يقولون: "خرج كل الأسرى من عندنا وبقي واحد وهو الأكثر قسوة" في إشارة إلى السنوار.
عرف عكاري السنوار، بأنه رفيق نصوح فكان في سجن بئر السبع ينصحهم دائما بتعلم اللغة العبرية، من أجل فهم الاحتلال الإسرائيلي من الداخل وكان يحثهم باستمرار، وبفضل دعمه أصبح الكثير من الأسرى المحررين لاحقا خبراء في الشأن الإسرائيلي والسياسية الداخلية الإسرائيلية.
بسبب علاقته الجيدة مع جميع الفصائل داخل السجون، أحبه الكثير من أبناء الفصائل واعتبروه قائدا مباشرا لهم، "حتى أن بعضهم فضلوه على قياداتهم التنظيمية"، إذ كانت علاقته تتجاوز البعد الفصائلي بحيث كان ينظر دائما بأن الشعب الفلسطيني أكبر من فصائله، وأن الفلسطينيين هم عائلة كبيرة تحتاج للمزيد من التكافل والتضامن والمحبة، وأن رفاق الأسر هم الذين يستطيعون قيادة الشعب بالمرحلة المقبلة.
في المقابل، كانت شخصية السنوار صارمة في القضايا التي تتعلق بالاحتلال والعدوان فلم يهن في السن وكان ذو مواقف مميزة في الحفاظ على إخوانه من أي تنكيل أو غطرسة من السجان وإدارته، وكان يقود أغلب المعارك النضالية اليت خاضتها الحركة الأسيرة في السجون الإسرائيلية وكان قائدا مميزا ورئيسا للهيئة القيادية لحماس، ذلك كان اسمه مرعبا لإدارة السجون ويتعاملون معه بحذر شديد ويتحاشونه.
فكل من تعامل مع السنوار خلال فترة سجنه من سجاني الاحتلال يعرف صلابة الرجل، وهذا ما أقره كبير محققي جهاز "الشاباك" الأسبق ميخائيل كوبي، فقال: "عندما تراه للمرة الأولى فأنت ترى شخصية ذو عيون قاتلة، شخص مؤمن بالله ويعرف القرآن عن ظهر قلب، تعلم العبرية في السجن وأجادها بشكل جيد، حتى أنه ترجم كتابين من اللغة العبرية إلى العربية، لم يقل أي شيء في التحقيقات، إنه الرجل الأكثر قسوة الذي التقيته في حياتي".
فيما يروي نبيه عواضه زميل السنوار السابق في سجن عسقلان عن محاولة السنوار وبعض الأسرى التحرر من السجن عبر حفر نفق أسفل السجن والذي تمكن الاحتلال من كشفها قبل أمتار قليلة من تجاوز الأسرى أسوار السجن، وقال: إن "السنوار كان مهندس العمل، وبعد ذلك أقدمت إدارة السجن على نقله، واتخذ الاحتلال قرارا بعدم بقائه في السجون لمدة طويلة خشية أن يحاول التحرر مرة أخرى".
فيما رأى الباحث مراد الشيشاني أن شخصية السنوار توحي أنه قريب من الناس، حتى تجل ذلك بروايته "الشوك والقرنفل"، وإضافة إلى ذكل امتاز بعقلية أمنية مكنته من تحليل شخصية السجان ثم التأثير عليه، وفي نظرته المستقبلية كان يرى أنه في حال "تغيرت غزة سيتغير العالم".
أما السفير المصري السابق لدى الاحتلال حازم خيرت فوصفه بأنه "شخص لا يخشى الموت. وقلبه ميت"، وصاحب تركيبة قيادية لمقاومة مسلحة.