ركل الطفل عبد الله أبو سيف كرة القدم متلهفا لقذفها في مرمى الفريق المنافس، في لحظة انتظرها طويلا لينتزع قدرا من الترفيه، لكن صاروخًا أسقطته طائرات الاحتلال على الأطفال اللاعبين كان نقطة تحول في حياته.
هي مساحة صغيرة أمام محل تجاري لوالده، كانت تتسع لما بات "حلمًا كبيرًا" لعبد الله وأقرانه في اللعب، والتشبث بأي بقعة ضوء وسط حرب مظلمة عنوانها الإبادة الجماعية المستمرة منذ عام في قطاع غزة.
"فجأة نزل الصاروخ.."، ببراءة يتحامل عبد الله البالغ من العمر ثمانية أعوام على نفسه بنطق هذه الكلمات لـ"فلسطين أون لاين"، محاولًا التقاط أنفاسه، واستعادة حبال أفكاره، بينما يغزوه الألم.
ولعبد الله ملامح طفولة هادئة، بعكس الضجيج الذي يعتصره من الداخل، وبشرة يكسوها لون قمح فلسطين.
يستلقي عبد الله على ظهره مجبرا في المستشفى، وتنطق عيناه بحديث لا ينتهي عن أحلامه التي تبخرت في أن يكون بمثل هذا الوقت على مقاعد الدراسة بالصف الثالث الابتدائي.
الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري تاريخ لن ينساه عبد الله، الذي هم آنذاك بلعب كرة القدم مع أصدقائه عند المدخل الرئيس لمخيم البريج وسط قطاع غزة.
ولطالما لعب عبد الله كرة القدم في المنطقة نفسها في ظل الانقطاع القسري عن الدراسة، بيد أن هذه المرة كانت مختلفة.
في لحظة سقوط الصاروخ لم ير عبد الله سوى "نارا" ملتهبة من حوله، ووقع أرضا، وتملكه الشعور بأن إحدى قدميه بترت، وغزاه الوجع من كل جانب، وكأنما كان الصاروخ وحشا انقض عليه لينهش أجزاء من جسده النحيل.
انتشله أحدهم وأسرع به إلى مستشفى العودة في مخيم النصيرات، محاولا إنقاذه من منطقة باتت كبقعة حمراء يكسوها لون دماء انهمرت من أجساد الأطفال التي قسم بعضها إلى نصفين، وفق أحمد، شقيق عبد الله الذي يرافقه في المستشفى ويعيش معه هذه الفترة الحاسمة من حياته.
خضع عبد الله للإسعافات الأولية ثم نقل إلى مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح.
وبات عبد الله واحدا مما يزيد عن 96 ألف غزي مصاب جلهم من الأطفال والنساء والشيوخ منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وفي البداية ظنت أسرة عبد الله أنه استشهد، لكن انبعث فيها الأمل عندما عثرت عليه في قسم الاستقبال بالمستشفى، ورغم ذلك كان عبد الله على موعد مع بدء رحلة من المعاناة.
يقول أحمد: إن شظية دخلت وخرجت من فخذ أخيه عبد الله وتسببت بتهتك في اللحم وكسر بعظمة الفخذ، بينما استقرت شظية ثانية أسفل العمود الفقري، وأصابت شظايا أخرى ركبته.
ويعمل الأطباء على مساعدة عبد الله في التعافي، لكنه بحاجة لعملية جراحية لإخراج شظية أسفل العمود الفقري يقول شقيقه إنها صعبة.
وبات عبد الله مقعدا حاليا، وتخشى أسرته من أن يتحول ذلك إلى شلل دائم.
وجاءت إصابة عبد الله في وقت تعاني فيه المنظومة الصحية في القطاع من استهداف الاحتلال الممنهج لها ولطواقمها الطبية، بما في ذلك تحويل مستشفيات إلى ثكنات عسكرية وقصف أخرى.
ويأمل أحمد في تحويل أخيه للعلاج في الخارج، لكن الاحتلال يبدد ذلك الأمل باحتلاله الجانب الفلسطيني من معبر رفح منذ مايو/أيار.
ويقول أحمد: إن عبد الله أصيب برفقة أخيه إبراهيم البالغ أربعة أعوام وجرح بيده من جراء القصف.
ويصف الشاب العشريني الوضع النفسي لأسرته بالمتأزم في ظل هول المصاعب التي تفرضها عليها حرب الإبادة الجماعية، قائلا: "عندما يصاب أحد إخوانك يصبح محور اهتمامك بجانب كل المشكلات التي يسببها هذا العدوان".
وفي ديسمبر/كانون الأوّل أجبرت الأسرة على النزوح من البريج إلى خيمة في رفح بسبب العدوان البري على المخيم آنذاك، ومكثت فيها ثلاثة أشهر، قبل أن تعود إلى منطقة سكنها مع اندحار قوات الاحتلال.
يئن عبد الله من جراحه قائلا: "حسبي الله ونعم الوكيل"، لكنه لا يظهر أي علامة ضعف رغم إصابته متعهدا بالنضال ضد الاحتلال عندما يكبر.
وحرمت الإصابة عبد الله من اللعب الذي بات "تهمة" يعاقب الاحتلال الأطفال عليها، ولن يكون قادرا في المنظور القريب على ممارسة هوايته في ركوب الدراجة الهوائية.
رغم ذلك يصمم الطفل على أنه سيلتحق مستقبلا بكلية الطب لمداواة المصابين والمرضى من شعبه، لاسيما الأطفال وهو من يشعر بمرارة ما تعرض له على يد احتلال غاشم.