أمام بوابة حاوية حديدية مليئة بجثامين الشهداء، راقب عدنان إبراهيم (31 عامًا) لعدة ساعات مراسم دفنهم من قبل جهات حكومية وفق الشريعة الإسلامية في مقبرة جماعية غرب مدينة خان يونس.
لكن مهمة عدنان ذو البشرة السوداء، لم تتكلل بالنجاح في العثور أو التعرف على جثمان شقيقه الوحيد الذي ارتقى بداية الحرب الإسرائيلية على غزة.
ويقول لمراسل "فلسطين أون لاين": "إن أمنية العائلة هو العثور على جثمان (إبراهيم) ودفنه وإكرامه في مقابر غزة على أمل أن تزوره والدته وزوجته وأبناءه".
ويضيف الشاب الذي غزا الشيب شعره طوال شهور الحرب: "نحن بشر ومن حقنا الحياة .. ومن حقنا أن ندفن أمواتنا".
ونظرا لعدم إرفاق الاحتلال "الإسرائيلي" أسماء وبيانات جثامين الشهداء أو أماكن وتوقيت استشهادهم، رفضت وزارة الصحة في غزة، الأربعاء الماضي، استلام حاوية حديدية تضم جثامين 88 شهيدًا.
وتمّت عملية التسليم عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر خارج معبر "كرم أبو سالم" أقصى جنوبي القطاع.
واضطر سائق الشاحنة بعد ساعات إلى ترك الحاوية خارج أسوار مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس بعد رفض الاحتلال استلامها من جديد حتى قررت وزارة الصحة "إكراماً لشهدائنا تشكيل لجنة من الأطراف ذات العلاقة للتعامل مع الجثامين بما يليق بهم، واستلامهم (الخميس) تمهيداً لدفنهم".
ولم يتوقف الوالد على عاشور (47 عامًا) طوال أربعة شهور من فقدان نجله عن البحث عنه أو معرفة مصيره حتى سمع بنبأ وصول حاوية جثامين الشهداء مجهولي الهوية.
وكغيره من مئات العائلات التي تبحث عن أبنائها أو حتى معرفة مصيرهم، لم تسعف الحاوية التي تضم الجثامين المتحللة في إطفاء "نار قلب" الوالد الذي يبحث عن "الأمل" هنا أو هناك.
ويذكر الوالد لمراسل "فلسطين أون لاين" أن ذراع نجله يكسوها "جبيرة وبلاتين طبي"، ويقول: "إذا شفت (شاهدت) هذه الجبيرة سأتعرف على ابني".
وعلّق المكتب الإعلامي الحكومي، أن الحكومة حاولت إشراك اللجنة الدولية للصليب الأحمر للتنسيق مع الاحتلال بشأن إعادة الحاوية، إلا أن اللجنة اعتذرت لعدم توافق العملية مع البروتوكولات الدولية المعمول بها في هذا السياق.
وردّت اللجنة الدولية على الحادثة، في بيان، أنها لم تشارك في نقل الجثث مؤخراً من (إسرائيل) إلى مستشفى ناصر في أي مرحلة.
وقالت: "يقف الصليب الأحمر على أهبة الاستعداد لتسهيل نقل الجثامين بصفتها إنسانياً محايداً إذا ما توصلت أطراف النزاع إلى اتفاق مسبق، وبالتوافق معها".
ثلاثة مفقودين
وعلى مقربة من الحاوية، تنتظر شهد نصر وبقية عائلتها على أمل التعرف على جثمان شقيقها الشهيد أو معرفة مصير عمها وابن عمها اللذان فقدت آثارهما في المناطق الشرقية لمدينة رفح.
وتقول شهد النازحة من رفح إلى منطقة "مواصي" خان يونس: "شقيقي شهيد وأمنيتنا أن نعثر على جثمانه وندفنه (هنا) في مقابرنا".
وتشير لمراسل "فلسطين أون لاين" إلى أن عائلتها لا تزال تبحث عن معلومة أو "بصيص أمل" لمعرفة مصير عمها وابن عمها أيضًا.
وتضيف: "ألم كبير يعتصر قلوبنا إزاء (معركة) البحث عن جثمان شقيقي الشهيد، أما المفقودين فلا نعلم هم أحياء أم أسرى أم شهداء .. نريد الجثامين ومعرفة المصير للمفقودين".
وأكدت اللجنة الدولية أنه يحق لجميع العائلات تلقي أخبار عن أحبائهم ودفنهم باحترام وبما يتماشى مع تقاليدهم.
وذكرت أنه بموجب القانون الدولي الإنساني، يجب التعامل مع أولئك الذين لقوا حتفهم أثناء نزاع مسلح بكرامة وإدارتهم بشكل صحيح، كما يتطلب القانون البحث عنهم وجمعهم وإجلائهم، مما يساعد على ضمان عدم اختفاء الأشخاص.
تحقيق دولي
ومع قرب انتهاء العام الأول من حرب الإبادة "الإسرائيلية" على غزة، أفادت تقارير ومنظمات بفقدان آلاف الأشخاص تحت أنقاض المباني التي تعرضت للقصف الذي طال تجمعات سكنية كاملة مما أدى إلى دفن العديد تحت الأنقاض.
ولم يكن بمقدور مركبات الإسعاف والطوارئ الوصول إلى الكثير من المناطق بسبب استمرار أعمال القصف، فيما لم يتم انتشال الجثث من تحت الأنقاض بسبب نقص المعدات.
وأشارت إلى أن هناك آخرين يعتقد أنه تم توقيفهم من قبل جنود الاحتلال خلال التوغلات البرية للأحياء السكنية أو أثناء محاولتهم العودة إلى مناطق شمال غزة أو النزوح جنوب القطاع.
ورغم عدم تحديد حصيلة المفقودين بشكل دقيق، إلا أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تتحدث عن 8700 سجلوا رسميًا بهذه الصفة، ولم يعثر عليهم في 75% من الحالات.
أما وزارة الصحة فتتحدث عن 10 آلاف، وهو رقم لا يشمله تعداد الشهداء الرسمي الذي تقدمه الوزارة ويناهز الآن 41,586 شهيدا.
وفي ذلك، أدانت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء ومعرفة مصير المفقودين الظروف المُهينة وغير الإنسانية التي رافقت تسليم الاحتلال لجثامين 88 شهيدًا من غزة.
وشددت الحملة الوطنية، في بيان، أن هذا التعامل المُهين مع الجثامين يتطلب تحقيقاً دولياً عاجلاً لضمان مُساءلة مُرتكبي هذه الانتهاكات ومنع إفلاتهم من العقاب.
وذكرت أن هذا التعامل ليس الأول بل سبق أن قامت سلطات الاحتلال بِتسليم أكثر من 400 جثمان لشهداء مجهولي الهوية بهذه الطريقة سابقاً، وبنفس الظروف حيث تمّ دفنهم في مقابر جماعية في وسط وجنوب القطاع.
وأوضحت أن هذه الانتهاكات الجسيمة والممارسات اللاإنسانية التي تقوم بها سلطات الاحتلال بحق جثامين الشهداء منذ السابع من أكتوبر الماضي، واحتجاز جثامين الشهداء والتنكيل بها يُمثل انتهاكاً صارخاً لكافة القوانين الدولية والإنسانية، بما فيها اتفاقية جنيف الرابعة، التي تضمن حقوق الموتى وتفرض على الدول المحتلة الالتزام بالكرامة الإنسانية في الحروب.
وطالبت الجهات الدولية بإجراء تحقيقات دولية مُستعجلة ومُستقلة في ظروف قتل واحتجاز الشهداء وتسليم جثامينهم بهذه الطريقة.
كما طالبت اللجنة الدولية للصليب الأحمر باتباع الإجراءات والبروتوكول المعمول به عند تسلم أي دفعات من الجثامين وتقديم التفاصيل اللازمة حول الجثامين التي يتم تسليمها.