يعرف المستمعون صوته أكثر من اسمه فكان صوته مميزًا عن بقية المذيعين امتاز بالرخامة والهدوء والاتزان، صاحب حنجرة إذاعية ذهبية، عايش كافة الأحداث والحروب التي مرت على الشعب الفلسطيني.
مع كل حرب أو عدوان إسرائيلي على غزة كان الصحفي بفضائية وإذاعة الأقصى محمد سلامة يعلن حالة الطوارئ ويغيب عن منزله وعائلته طوال فترة العدوان، يكرس كل وقته في نقل الرسالة وتغطية الأخبار ومتابعة الأحداث الميدانية.
ولطالما شكلت الإذاعات أوقات الحروب والطوارئ أحد أهم مصادر المعلومات، ما جعل العمل الإذاعي يحظى باهتمام ومتابعة من قطاع كبير من أوساط الشعب الفلسطيني، وكانت الإذاعة تعمل على تعبئة الجماهير برفع معنوياتهم، ما جعل الإذاعة التي تعرضت للقصف عدة مرات هدفا لجيش الاحتلال وكان يمثل مذيع الأخبار "استشهاديا خلف الميكرفون".
أدرك سلامة منذ أول حرب شنها الاحتلال على غزة عام2008 أنه يمكن أن يكون شهيدا في أي حرب، وأن القوانين حقوق الإنسان الضامنة لحرية الصحافة ما هي إلى مجرد حبر على ورق، في ظل استمرار استهداف الاحتلال للصحفيين.
وعمل الشهيد محمد سلامة في إذاعة الأقصى ثمّ انتقل إلى القناة حيث قدّم عدداً من البرامج والفقرات، مساء الثلاثاء الموافق السادس من مارس/ آذار 2024 لم يطل سلامة عبر شاشة الفضائية التي لطالما كان هو ناقل الخبر للناس، فغاب قسرا بسبب استهداف الإعلام الفلسطيني، ولم يتوقف الاستهداف عند حدود قصف المؤسسات، فاستشهد سلامة وعدد من أفراد عائلته في قصف إسرائيلي على منطقة دير البلح وسط قطاع غزة.
ومع انتشار خبر استشهاده نعاه عدد كبير من الغزيين والفلسطينيين الذين اعتادوا متابعته عبر شاشة "الأقصى" وقبلها سماع صوته عبر أثير الإذاعة.
درع صحفي فوق الأشلاء
على كفن مليء بالدماء والأشلاء، وضع زملاؤه الصحفيون وأفراد عائلته درعا صحفيا فوق جثمانه يذكرون العالم بما يتعرض له الصحفيون الفلسطينيون الذي يقتلون هم وعائلاتهم، فحمل استشهاده الرقم 133 شهيدًا.
بكلمات مليئة بالرثاء والحزن يقول الصحفي بفضائية الأقصى محمد قريفع: إن "الشهيد سلامة من المذيعين المميزين واللامعين في العمل الإذاعي والتلفزيوني، قطع شوطا كبير في العمل الإذاعي الذي استمر أكثر من 13 عاما، وكان صوته يحبه الجميع وينتظره الكل سواء من غزة أو الخارج، يستمعون لاستثنائيته عن أغلبية من يعملون خلف الميكرفون فكان يمتاز بعذوبة صوته ورخامته وهدوئه".
انتقل سلامة منذ عام للعمل على الشاشة وكان دائما يتحدث بلسان الطموح، مضيفا: "حزن على الميكرفون فعاد إليه على فترات متباعدة "كي لا يقطع علاقته بالميكرفون" كما كان يقول لنا، حتى وإن انتقل للشاشة التي يحظى المذيع فيها بشهرة معروفة أراد أن لا يقطع صداقة استمرت لسنوات مع الإذاعة".
عرف قريقع، زميله سلامة بأنه صاحب طموح يقاتل من أجله فلم يقبل على نفسه أن يكون رقما عابرا، بل أراد أن يكون صاحب مكانة وكان دائما التسجيل لشركات وقنوات سواء عربية أو محلية، وكان يطلب بالاسم نظرا لـ "انفرادة صوته ومكانته".
كذلك عرف الشهيد سلامة، وفق زميله، بعمقه في طرح الأسئلة وكانت أسئلته تبهر الضيوف التي امتازت بعمقها فمثل مدرسة في العمل الصحفي الإذاعي، حتى أن الناس كانت تعرفه من صوته، وهو ذات الصوت في بيته وفي كل مكان، استحوذ على محبة أبناء شعبه بروحه المرحة ابتسامته وطيبته ونقاء سريرته.
يرافق الحزن صوت قريقع "كان لديه جواز سفر وكان يحدث الزملاء أنه يريد السفر، وربما لم يدرِ أن السفر سيكون لوجهة أخرى".
في 14 مايو/ أيار 2021 نعى محمد سلامة شقيقته منار وطفلتها لينا التي استشهدت بقصف إسرائيلي خلال العدوان على غزة وكان دائما النشر عنها بكلمات ممزوجة بالحزن وقبلها نعى صديقه المذيع في نفس المؤسسة يوسف أبو حسنين "لا أدري كيف أوزع الحزن بينك وبين أختي"، وكتب عن فقد أخته: "فقدت أختا لم أشعر يوما أنها بحاجة إلى دعمي أو اسنادي، بل كانت حقا بمثابة الأخ والسند، وكانت تنافسني في المواقف والمحطات على أن تكون هي دوما في المقدمة، لا أذكر أنها انشغلت عن أهلها وأخواتها".
انتقال سلس
لا شك أن الانتقال من العمل الإذاعي إلى التلفزيوني يحتاج بعض المهارات ويجد المذيع الإذاعة صعوبة في هذا الانتقال، لكن محمد سلامة بحسب هاني المغاري رئيس قسم المذيعين بفضائية الأقصى لم يواجه صعوبة في هذا الانتقال، فكان انتقالا سلسا لما يملكه من مقومات لها علاقة بالإطلالة والحضور.
تميز سلامة كما يراه المغاري بصوت إذاعي وتلفزيوني مميز، ويعتبره من الأصوات النادرة خاصة المتعلقة بالتعليق الصوتي، ويقول لموقع "فلسطين أون لاين": "كنا نستعين به عندما ننتج فليما وثائقيا حتى يخرج عملا احترافيا بشكل كبير، علاوة على دماثة خلقه فهو من المشهود لهم بأنه صاحب أخلاق عالية لا يتكلم إلا بما هو مفيد، صاحب ابتسامة، متواضع ونسج علاقات مع زملائه المذيعين بوقت قصير.
على مدار تجربة عمل على شاشة التلفزيون لم تزد عن العام، تحتفظ ذاكرة المغاري بمشهد لأول إطلالة لزميله الشهيد على شاشة فضائية الأقصى قائلا: "كان التحدي بأنه حديث الظهور على الشاشة، واستغرب البعض من الاعتماد عليه بتغطية صعبة استمرت أربع ساعات لكنه خرج بها بشكل ممتاز".
انتقل سلامة للعمل المرئي في فترة أحداث صعبة، أثبت جدارته، فأضاف وجها جديدا لشاشة الفضائية وعمقا في البرامج الحوارية، وترك بصمة في برامج مهمة مثل "هنا فلسطين. وساعة حوار"، يعتبره المغاري بأنه "أضاف الكثير للفضائية وأوجد جمهورا خاصا له، بعدما كان الجميع يعرف اسمه وصوته فقط".
لم يكن استشهاد سلامة خسارة للفضائية فحسب "لقد خسرت الصحافة الفلسطينية محمد، وكذلك خسرته القضية، كان يستحق مكانة عالمية على جهده وفهمه وما يملكه من مهارات في التقديم التلفزيوني والإذاعي". يقول المغاري بملامح مغلفة بالحزن وهو يجلس داخل خيمة صحفية يفتقد فيها لوجه زميله سلامة.
كان سلامة على استعداد لتلبية نداء الشاشات أوقات الطوارئ، بل ويلغي مشاويره العائلية لأجل ذلك، يستذكر المغاري صوته القادم من جيوب الذاكرة: "كان دائما يقول لي: "أنا على استعداد بأي وقت للحضور" ولم أسجل عليه أنه لم يلب نداء الرسالة الإعلامية وكان خير من حمل رسالة المقاومة الإعلامية".
قلب شفاف
لا تفارق ذاكرة المذيع محمود العامودي بداياته في العمل في إذاعة الأقصى رفقة زميله سلامة، يومها تأخر الأخير عن الظهور في برنامج تفاعلي مع الناس، فاضطر العامودي الذي أصبح لاحقًا من أفضل مقدمي البرامج التفاعلية، للظهور في البرنامج وكان التقديم موفقًا.
بصوت ممزوج بين الحزن والابتسامة يروي العامودي لموقع "فلسطين أون لاين": "انتهى البرنامج. خرجت من الاستوديو فرأيته يجلس خارج الإذاعة ولم يكن متأخرًا، عاتبته يومها بلهجة استفهام: ليش عملت هيك؟ ولا زلت أذكر رده وإجابته: "إذا لم تخرج للجمهور وتخوض التجربة فلن تتعلم" وأكمل رده: "تعمدت أن تخرج كي تلاقي نفسك وتعمل وتكسر الخوف من الميكرفون"، فكان له فضل كبير علي".
يقول العامودي بصوته المليء بالفخر بتجربة حافلة أمضاها مع زميله الشهيد "لا يمكن أن تجد أي شخص لديه خلاف مع محمد، لأنه شفاف أبيض طاهر شيء من الملاك، لم أره يجرح إنسانا قط".
عرفه العامودي أنه من أطيب الناس وأكثرهم تواضعًا، كان صاحب إمكانيات فريدة وخامة صوت لا مثيل لها، يعدها من الخامات النادرة في قطاع غزة والقليلة على مستوى الوطن العربي، "تجده قريبا من الكل، صديق المذيع والمحرر والمراسل والآذان متواضع، أضاف الكثير للإذاعة وكان صاحب طلة بهية تعطي هيبة للشاشة".
على مدار سنوات طويلة عاصر المذيعان أحداثا مفصلية مر بها الشعب الفلسطيني وخاضوا تجارب مهمة تحضر حديث رفيقه: "كان لا يخاف ولا يتراجع، فإذا نادي المنادي كان يثبت الناس ويرفع معنوياتهم وينقل التغطيات أولا بأول، ومتى طلب على رأس عمله لا يتأخر وكثيرا يتقدم دون أن يطلب منه".
وسادت حالة من الحزن على متابعيه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فكتب عابد الإله عبر منصة x: "أنا كنت بأشوفه على القناة التلفزيونية في برنامج عن صحف اليهود وحبيته وصوته وشخصيته ورقيه وأصبح صديق عبر الشاشة كأنه حد من الأسرة لازلت مصدوم وساكت وحزين من ساعة ما عرفت يارب اجمعنا بالحبايب في الجنة".
صوته الفريد كان يشد الناشط (@Yasser_Gaza) والذي كتب عنه: "عرفت محمد منذ كنت طفلا يستمع إلى برامج إذاعة الأقصى في المساء مع انقطاع الكهرباء، كان صوته المميز يشدني للاستمتاع إلى النشرات والبرامج التي يقدمها، حتى زرت إذاعة الأقصى ذات يوم للسلام عليه فقط، فاجأته بأنني أحفظ حتى بعض الكلمات التي يكثر الحديث بها".