بكل ثقة أقول: لا منطقية لبقاء الجيش الإسرائيلي على محور صلاح الدين "فيلادليفيا"؛ ذلك المحور الممتد لمسافة 14 كليو متراً، من البحر غرباً حتى الشرق، والفاصل بين سكان مصر العربية وسكان قطاع غزة، وعدم المنطقية هذا لا يعتمد على منطق الاحتلال الذي يفاوض مصر العربية على وجود عدة نقاط ارتكاز للجيش الإسرائيلي على المحور، وعدم المنطقية هذا لا يعتمد على الشروط الإسرائيلية لإعادة فتح المعبر بين مصر وأرض فلسطين، وإنما عدم المنطقية هذا يعتمد على القراءة الأمنية الإسرائيلية لواقع محور صلاح الدين، والمتمثل بعدم قدرة الجيش الإسرائيلي على الاحتفاظ بقواته داخل هذه المنطقة المرعبة والمتحركة من أرض غزة، وغير الآمنة لحركة الجيش الإسرائيلي، وغير مضمونة السلامة لفترة زمنية طويلة.
تاريخ محور صلاح الدين يقول للفلسطينيين والعرب: لقد عجز الجيش الإسرائيلي عن حماية قواته طوال فترة انتفاضة الأقصى الممتدة من سنة 2000 وحتى سنة 2005، في تلك الفترة من المقاومة البدائية، والتي لم ترتق بقدراتها اللوجستية والتفجيرية إلى ما وصلت إليه اليوم، ولم ترتق بقدراتها على حفر الأنفاق إلى ما وصلت إليه اليوم، ولم ترتق بالوصول إلى مقرات المواقع العسكرية الإسرائيلية، كما وصلت إليه المقاومة في هذه الأيام، التي دللت بالتجربة العملية على قدرات المقاومة المرعبة والمفاجئة.
لقد انهزمت إسرائيل بجيشها من محور صلاح الدين سنة 2005، ولقد اعترف الجيش الإسرائيلي في حينه بعدم قدرته على مواصلة السيطرة الآمنة والمضمونة على محور صلاح الدين "فيلادليفيا"، ولاسيما بعد أن أصبح للمقاومين الفلسطينيين القدرة على حفر الأنفاق، والتسلل عبر فتحاتها الضيقة، ومن ثم صعودهم ظهر الدبابة الإسرائيلية وتفجيرها، قبل أن يفيق الجند من خوفهم، كما حدث سنة 2004، في تلك الفترة من تاريخ المقاومة اكتشف رجال غزة قدراتهم على حفر الأرض، وقدراتهم على التسلل عبر الأنفاق حتى الوصول إلى المواقع الإسرائيلية، التي تضم عشرات الجنود والضباط، وتفخيخها بالعبوات الناسفة شديدة الانفجار، ومن ثم اختيار اللحظة المناسبة، التي تطايرت فيها أشلاء الجنود والضباط الصهاينة في أجواء غزة الملبدة بالكرامة.
لم ينسحب الجيش الإسرائيلي من غزة سنة 2005، ومن محور صلاح الدين "فيلادليفيا"، ومن مغتصبة "نتساريم" ـ التي اعتبرها شارون في حينه بأهمية تل أبيب ـ لم تنسحب إسرائيل للدلالة على حسن النوايا، ولم ينسحب الصهاينة شفقة بأهل غزة، وتقديراً لأوضاعهم المعيشية البائسة، ولم ينسحب الجيش الإسرائيلي حباً بالسلام، ولا انسجاماً مع اتفاقية أوسلو، ولم ينسحب الجيش الإسرائيلي من غزة سنة 2005 طمعاً بصك غفران من مجلس الأمن الدولي، أو جامعة الدول العربية، انسحب الجيش الإسرائيلي من غزة تحت ضربات المقاومة، وبعدما أمسى الجنود الإسرائيليون يتلفتون يميناً وشمالا من شدة الخوف، وهم ينتظرون لحظة التفجير، وقد تخيلوا ملك الموت، وقد خرج عليهم من تحت الأرض ليقبض أرواحهم.
إذن؛ كان الجيش الإسرائيلي يسيطر على محور صلاح الدين "فيلادلفيا"، وكانت له اليد الطويلة القادرة على قصف مدينة رفح من شرقها وحتى غربها، ولكنه أجبر على الانسحاب دون مفاوضات، ودون اشتراطات، ودون نقاط ارتكاز، ودون وساطة أمريكية، انسحب استجابة للواقع الميداني الصعب والقاسي، رغم اعتراضات نتانياهو في ذلك الوقت، ورغم المكابرة.
التاريخ يعود على أثره في غزة، ونتانياهو يخطو على أثر شارون، ولكن من خلال المفاوضات العبثية، التي ستسمح له بالهروب من محور صلاح الدين "فيلادلفيا" دون الإقرار بالفشل العجز، ودون الاعتراف بقدرات غزة الإبداعية في المقاومة.