جلس الصحفي محمد جاسر في إحدى ليالي الحرب في جلسة سمر برفقة شقيقه عبد الله، يتحدثان عن يوميات حرب الإبادة الإسرائيلية التي أتت على البشر والحجر والشجر في قطاع غزة.
كان الشقيقان يشعران أن الشهادة قد تكون من نصيب أي منهما بسبب شدة القصف الإسرائيلي الذي يستهدف مخيم جباليا شمال قطاع غزة، حتى قررا تبادل وعدا بألا يبكي أحدهما على الآخر في حال نال أي منهما الشهادة.
أسابيع قليلة مرت لتقتل غارة إسرائيلية عبد الله، ثم ما هي إلا عدة أشهر إضافية لتنال غارة أخرى من الصحفي محمد.
واستشهد الزميل جاسر فجر اليوم السبت، برفقه زوجته وأطفاله ووالدته المقعدة في غارة إسرائيلية استهدفت منزل العائلة في مخيم جباليا شمال قطاع غزة.
وولد محمد جاسر في السابع من سبتمبر عام ١٩٨٥، في مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة، وحصل على شهادة الثانوية العامة من مدرسة أحمد الشقيري للبنين عام ٢٠٠٣.
ونال جاسر شهادة البكالوريوس في الصحافة والاعلام من جامعة الأمة للتعليم المفتوح، كما حاز على درجة الماجستير في الصحافة والاعلام من الجامعة الإسلامية بغزة.
وعمل الزميل جاسر منذ تخرجه في العديد من وسائل الإعلام المحلية والعربية، مثل صحيفة الرسالة، صحيفة فلسطين، مجلة زهرة الخليج، وموقع "ألترا فلسطين".
خلال حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، رفض الصحفي جاسر الخضوع لأوامر جيش الاحتلال والنزوح من شمال القطاع إلى جنوبه وقرر البقاء والصمود في مخيم جباليا.
وكتب جاسر حينها منشورا في صفحته عبر فيسبوك: "بالنسبة لي ولكل عيلتي.. #مش_طالعين".
وكان جاسر ينقل أحداث العدوان الإسرائيلي على مدينة غزة ومخيم جباليا بشكل خاص، ويغطي جنازات الشهداء ووداعهم، وينشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة فيسبوك.
وحمل جاسر فخرا كبيرا تجاه مخيمه الذي كان يرتبط به ارتباطا وجدانيا، ففي أحد منشوراته كتب: "جباليا: كلمة مشتقة من العلو والارتفاع (الجبل).. عرفتو ليش سميت جباليا".
وآخر ما نشره جاسر عبر فيسبوك كان منشورا ينعى فيه شقيقه الشهيد عبد الله الذي استشهد في السادس من نوفمبر ٢٠٢٣، ويذكر آخر موقف جمعهما سويا.
كتب جاسر في منشوره: "آسف لقد أخلفت الوعد! في إحدى جلسات السمر بيني وبين أخي الحبيب، ذكرنا الموت وما يحدث للإنسان المسلم والكفر ما بعد الموت، وفي نهاية الحديث، بحكم أنا أكبر منه ب9 سنوات، طلبت من أخي وصديقي الحنون، أنه في حال مفارقتي للحياة أن توعدني بألا تبكي بتاتا وأن تصبر الجميع برحيلي من هذه الدنيا، فقال: وعد. ثم أطلق تنهيدة قوية وقال لي: "ممكن توعدني نفس الوعد!"
كانت إجابتي: صعب جدا، ولا أستطيع أن أتخيل أن تموت قبلي، صحيح أن فرق العمر بيني وبينك كبير وبالإضافة إلى أن الموت لا يعرف كبير ولا صغير؛ لكن "مش متخيل تموت قبلي".
رد علي بابتسامته المعهودة "بدك توعدني وإلا بتراجع عن وعدي لك". فقلت له دون تفكير "بوعدك"، مع إضافة بعض الوعودات التي أحتفظ بها لنفسي.
في اليوم الـ٣١ للحرب المجنونة على أهل غزة الموافق السادس من نوفمبر 2023، جاء الخبر الصادم وغير المتوقع من صديق لي حيث قال "عبد الله أخوك استشهد"!!!!
في لحظة واحدة، تمنيت الموت ولم أسمع بهذا الخبر، ودخلت في موجات الحزن.
وذهبت إلى المستشفى لأرى جثمانك الطاهر فأول ما وقع نظري عليك "ملأ عيني الدموع بشكل لا أرادي".
فلم أستطع يا مهجة القلب، وضي العين، ويا رفيق الروح أن أكون عند وعدي "بعدم البكاء وتصبير أمك وأبوك وأخوتك وأصحابك وأقاربك على مفارقتك" فأنا آسف يا توأم الروح "لقد أخلفت الوعد"، ولقاؤنا في الجنة بإذن الله تعالى".
ونعت صحيفة فلسطين، الزميل الصحفي محمد جاسر والذي قضى شهيدًا إلى جانب أسرته ووالدته المقعدة إثر غارة إسرائيلية غادرة على منزله في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة.
وقالت الصحيفة في بيان لها، اليوم السبت، إنها تنعى بكل فخر الصحفي جاسر والذي انضم لقافلة شهداء الحقيقة والحركة الإعلامية الفلسطينية خلال الحرب العدوانية على قطاع غزة.
وأشارت الصحيفة إلى أن الصحفي الشهيد جاسر عمل في فترة سابقة، محررًا في صحيفة فلسطين وموقعها الإلكتروني فلسطين أون لاين، وكذلك عدة وسائل ووكالات إعلامية محلية ودولية.
وساد الحزن بين أصدقاء وزملاء الزميل جاسر، ونعاه العديد من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي.
وكتب صديقه محمد أبو الطرابيش في منشور له عبر فيسبوك: "قبل يومين كنت سعيد جدا بالحديث مع صديقي وأخونا والزميل الصحافي محمد أبو جاسر، حدثني عن رحلة العذاب الي عاشها مع إصابة زوجته والرضيعة التي انجبتها بالحرب، حدثني عن محاولته لتوفير أدنى احتياجات أمه المقعدة، حدثني عن أمله الكبير بلطف ربنا، حدثني عن ثقته بالله، حدثني عن تعبه، حدثني عن حبه لعائلتي وحبه لوالدي، حدثني عن شقيقه الشهيد عبد الله إلي يعد اخونا الرابع، حدثني القليل وترك لنا باقي الرواية حين أكملها قبل قليل بدمه ودم زوجته وأطفاله الثلاثة، بقصف حربي في عمق مخيم جباليا".
وباستشهاد الصحفي جاسر، بلغ عدد شهداء الحركة الصحفية والإعلامية في قطاع غزة 161 شهيدا منذ بداية العدوان الإسرائيلي والحرب الإجرامية التي تشن على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي 2023.