قائمة الموقع

رغدة ومصعب.. ناجيان من القصف يكتويان باستشهاد أبيهما

2024-07-15T12:33:00+03:00

كتمت الأنقاض أنفاسها وأطبقت على صدرها، لكنها كبركان انفجرت حممه صرخت بوجع: "يا بابا.. طلعني من تحت الحجار"، بعد أن كانت للتو نائمة.

أصغت "مها" لصوت طفلتها "رغدة" وثارت نفسها لعجزها عن مساعدتها هي ورضيعها مصعب، المحاصرين معها تحت ركام منزل أهلها المقصوف بغتة في جنح الليل.

انتفض جسد مها من أوجاعه، وتناثرت في أنحائه الرضوض، إلى أن دعت ربها أن يستشهد طفلاها لئلا يعيشا لحظات ألم لا يحتملها البشر، أما زوجها إبراهيم أبو لوز، فلم يكن قد أجاب ابنته بعد.

"زلزال" دون إنذار

في ليلة 21 أكتوبر/تشرين الأول، كانت مها وطفلاها وزوجها نازحين في منزل عائلتها بمعسكر دير البلح وسط قطاع غزة، بعدما بات منزلهما في مرمى نيران الاحتلال، ضمن حرب إبادة جماعية لا تزال فصولها مستمرة.

بأسى أجبر القصف مها وزوجها على النزوح من منزلهما في بداية حرب الإبادة دون أن يصطحبا أيًا من حاجياتهما.

تملك الشعور بقرب نيل الشهادة كلا من الزوجين وهما يشاهدان هول المجازر التي يقترفها الاحتلال خصوصا في شمال القطاع.

-"مطولة الحرب؟ مش قادرة أتحمل". 

-"أكيد مش هتطول كبيرها أربعة أسابيع".

حديث دار بينهما في الأسبوع الثاني من العدوان، وسرعان ما استدركت مها: "عدد الشهداء كبير، تخيل لأربعة أسابيع كم سيرتفع".

حينها توقع إبراهيم أن يصل عدد الشهداء إلى 30 ألفا، لكنه في الواقع تجاوز حتى الآن 37 ألف شهيد.

عند الثالثة بعد منتصف تلك الليلة، هز صوت انفجار ضخم المنطقة كزلزال وقع دون مؤشر أو إنذار.

كانت مها تحتضن رضيعها مصعب (شهران) وإلى جانبها تنام رغدة، وفجأة وجدوا أنفسهم تحت الأنقاض.

"استيقظت على صوت القصف والحجار فوقنا، شعرت حرفيًا أنني مدفونة مع طفلي، ومع شدة الصواريخ والدخان والركام لم أستطع إصدار أي صوت"، تستعيد مها في حديث مع "فلسطين أون لاين" مشهدا فارقا في حياتها.

تسلل إلى مسمعها صراخ الناس الذين هرعوا إلى المكان بحثًا عن أي ضحية قد يكون على قيد الحياة، لكنها لم تتمكن من الإجابة، أما طفلاها فاستمرا في الصراخ، لم يكن بوسع مها حتى الالتفات إليهما، لكن قلبها فعل.

ظلامٌ دامس خيّم على المكان، ومها وطفلاها تحت الأنقاض لخمس ساعات مرت ثقيلة كخمس سنوات.

انقطع أملها في أن تبقى على قيد الحياة، وقد انقضت الحجارة عليها.

سمعت مها صوت فتى يناديها لينتشل رضيعها من تحت الأنقاض، بالكاد نطقت كلماتها كقطرات ماء متباعدة: "إيدي تحت راسه اسحبه.. لا بقدر أحرك إيدي التانية ولا أعطيك إياه".

تمكّن الفتى بفضل جسده النحيف من التسلل بين الركام وانتزاع الرضيع، الذي أصيب بجروح طفيفة في رأسه ووجهه.

وبعد شهيق وزفير، تقول بنظرات ملتهبة: "فترة صعبة قضيتها إلى أن تمكّن جهاز الدفاع المدني من انتشالي مع طفلتي بعد عناء".

ومنذ بداية حرب الإبادة استهدف الاحتلال رجال الدفاع المدني ومركباتهم، ما أوقع في صفوفهم شهداء وجرحى أثناء تقديمهم الخدمة للمواطنين ضحايا العدوان، كما منع إمدادهم بالمعدات والمركبات والسولار اللازم لتشغيلها.

ونقل جميعهم إلى المستشفى، وهناك اطمأنت مها إلى أن مصعب بخير، أما رغدة فأصيبت برضوض في ساقيها وقدميها، استدعت بقاءها ممددة على ظهرها لشهرين.

أبلغها أطباء بحاجة طفلتها إلى العلاج الطبيعي، لكنها مارست بتصميم المشي رغم ثقله على قدميها المصابتين، إلى أن تحسنت حالتها.

أصيبت مها أيضًا برضوض وصفت بالصعبة في كل مناطق جسدها، سلبت قدرتها على المشي لأسابيع عدة.

لم تكد مها تستوعب ما جرى لها، حتى فجعت بنبأ استشهاد زوجها إبراهيم، ضمن 33 شهيدًا هم ضحايا نسف مربع سكني كامل يقع فيه منزل أهلها.

في يوم ارتقائه، وصلت إلى هاتف إبراهيم -الموظف في بلدية دير البلح- رسالة للمساعدة في حفر قبور للشهداء، لكن هو ذاته كان قد ووري الثرى شهيدًا.

"كانت مجزرة بكل معنى الكلمة، وكل الجيران ارتقى منهم شهداء"، تقول مها بصوت متحشرج، وهي تضم طفليها إلى ذراعيها.

لا تزال رغدة ذات الملامح البريئة محاصرة بتفاصيل المجزرة التي وقعت ضحية لها دون ذنب.

عانت الطفلة ابتداء من صدمة نفسية، منعتها من الكلام، وجعلتها جاحظة العينين، لا تتجاوب مع أمها، وتصرخ طوال الليل.

ورغم أن تحسنًا طرأ على حالتها النفسية لكن الخوف لا يزال يسيطر عليها، وهي التي تقول لوالدتها ليلًا: "اوعي الحجر يجي على وجهي" قاصدة الركام والأنقاض.

تستذكر الطفلة أن الاحتلال "حرقنا حرقًا"، وأنها رأت نارًا مشتعلة وسط الظلام، وتعبّر بكلمات بسيطة عن إيمانها بأن أباها وشهداء المجزرة "في الجنة".

تقطن مها وطفلاها حاليًا في شقة مستأجرة مع والديها وأخيها، بعدما فقدوا منزلهم في إثر المجزرة، كما أن منزل عائلة زوجها لم يعد صالحًا للسكن.

"باتت رغدة ومصعب بلا أب ولا معيل ولا بيت يحتوينا، وإيجارات المنازل مرتفعة"، بحسرة تشرح مها اكتواء طفليها بنار فراق أبيهما.

لكنها تقول: إنها لا تعتزم الاستسلام لهذا الواقع المؤلم، "وسأسخر عمري لتربيتهما".

تطمح الأم إلى أن يلتحق طفلاها مستقبلًا بكلية الطب، للوقوف إلى جانب شعبهم المكلوم، لكنها لا تجد الآن من يطفئ نارًا مشتعلة داخل طفلين يفتقدان حنان ورعاية أبيهما.

اخبار ذات صلة